كتب

الأسطورة والتاريخ بين نهر وجبل

منى أبو النصر

ينهض العالم الروائي في رواية «آشا الجعران والقمر» للكاتبة والروائية المصرية سمر نور على أكثر من ركيزة، تفرض كل منها سُلطتها على شخصية بطلة الرواية «آشا»، فهي ابنة قرية نوبية مُهمشة تواجه لعنة الحرمان، وتعيش وسط سياق تاريخي مُرتبك، وأسطورة تفرض حضورها المركزي رغم كل شيء.

 

صدرت الرواية، أخيراً عن دار «ديوان» للنشر بالقاهرة، وفيها تعيد «اللعنة» تشكيل عالم أهل قرية «الشباك» النوبية، تقذف بهم إلى جبل ليحتموا فيه من تهديدها، فيقودهم حكيم القرية «نوري» وزوجته «فاتي» العجوزان، إذ ربما يتجاوزون بهذا الفرار «مصيبة القرية» التي تسببت في حرمان نسلها لسنوات من البنين، وتُهيئ الرواية بهذا المجال «الملعون» لميلاد الطفلة «آشا»، ابنة نوري وفاتي، التي يكون ميلادها في مغارة الجبل مصحوباً بأمارات «المعجرة».

يستدعي مشهد هروب أهل القرية النوبية صعوداً إلى الجبل مشاهد متفرقة من التراث الديني، فيبدو أقرب لـ«هجرة جماعية» من أرض مُهددة تُطل على النهر إلى جبل مفتوح على كل الاحتمالات: «بدأوا صعود الجبل في جماعة صغيرة وكأنهم مهاجرون أوائل»، ورغم انتظارهم لرائحة الموت فوقه، فإن ثمة حياة تتفتح من مغارة الجبل بميلاد طفلة للعجوزين؛ حكيم القرية وزوجته حكاءة القرية، لتصبح آشا نوري: «ابنة الحكايات» ووريثتها.

فتيات الأمانجي

تُحيط سمر نور عالم الرواية بأنفاس الحكاية الشعبية، فهي تبدأ الرواية وتنهيها بصوت استهلال راويِة نوبية: «حكاية… حكاية من الله»، ويُمهد هذا المدخل الشفاهي إلى العالم السِحري الخيالي لحكاية أهل قرية «الشباك»، وتكوين بطلتها «آشا» التي خرجت من ظلام مغارة جبلية، ونشأت مُشبعة بالحكايات، وبقدرة مدهشة على التخييل الذي طال كل شيء من حولها، فتمنحها تلك المَلكة تكويناً غرائبياً يظهر في العديد من مشاهد الرواية، فهي تحكي الحكايات للماعز والخِراف والطيور، وتتقاسم الحياة مع فتيات النهر الخياليين التي تُطلق عليهم «فتيات الأمانجي»، التي تتحوّل لواحدة منهن وهي تغوص في طبقات النهر السُفلي، فيما تستدعيهن من النهر إلى واقعها في قرية «الشباك» لتشاورهن في أمورها، حتى يكاد يذوب في حضورها الخيط بين الواقعي والسحري.

ورثت «آشا» القدرة الفائقة على التخييل من أمها «فاتي»، التي تبدو في الرواية تمثيلاً أدبياً للقوة المركزية للمرأة داخل مجتمع نوبي، وهو ملمح راسخ في هذا العمل الروائي يُنافي الكثير من أوجه التصوير النمطي لعالم النوبة وتهميشه لأدوار السيدات، أو الاكتفاء بالإشارة لقهرهن، فيما تبدو في هذه الرواية أن «فاتي» التي يتحلّق حولها أبناء القرية لسماع حكاياتها عن «الجعران والقمر»، وغيرها من الحكايات الأسطورية، صاحبة دور بالغ الأهمية في التأثير على أهالي قرية «الشباك»، وتكون فيما بعد صاحبة دور محوري في مواجهة لعنة القرية، تكشف عنه أحداث الرواية.

شريط تاريخي

ورغم سطوة العالم الأسطوري للرواية فإن الكاتبة تؤطِر روايتها بشريط تاريخي يعود للنصف الأول من القرن التاسع عشر، متتبعاً تحوّل قرية «الشباك» النوبية إلى مسرح مفتوح من الدمار بفعل المماليك الهاربين من مذبحة محمد علي، ومن بعدها نهباً لجنود محمد علي المُطارِدين لهم، في إيقاع دموي عبثي يفرضه «هاربون من هاربين» مُخلفين القرية بين جوع وفاقة ونقصان، ويظهر في العمل ملامح ما خلفّته تلك المطاردات من إعادة ترسيم معالم القرى النوبية في هذا الزمن التاريخي.

ووسط التغييرات التي راحت تفرضها سلطة محمد علي، تُختبر تقاليد «قرية الشباك» كما يجسدها الصراع الروائي بين أبطال العمل، الذي وصل ذروته عند وقوع «آشا» في حب «كرم باش» صاحب الهُوية المزدوجة، فيكون عِرقه البوسني سبباً في أن يُطلق عليه «الغريب»، ويُربِك هذا الحب النواميس والتقاليد التي تحكم قرية «الشباك»، وتتصاعد حدة تلك التوترات مع تصاعد طموحات «كرم باش» للاستفادة من التغيرات الاجتماعية الجديدة التي أدخلها حكم محمد علي، بما فيها تجارة العبيد، فيما يتمسك حكيم القرية «نوري» برفضها: «نحن مزارعون وصناع ولسنا تجاراً، ولن نكون تجار عبيد».

فرضت حالة التراوح بين انتماء البطلة لعالم والدها حكيم القرية صانع السواقي «نوري»، وتورطها في حب «كرم باش» بصمتها على إيقاع السرد، الذي يشهد تحوّلاً واسعاً في شخصية «آشا» حتى يصل بها إلى ذروة التمرد الذي يصعد بها إلى الجبل من جديد، الذي وُلدت في مغارته أو ما يدعى بـ«كهف الجعارين»، في مفارقة تجعل الزمن والمكان وكأنهما يعودان أدراجهما إلى حيث المهد الأول للحكاية.

تنحاز الكاتبة سمر نور في لغة العمل إلى توظيف كلمات من اللهجة النوبية في متن فصحى العمل، دون استعانة بهوامش في اعتماد ضمني على فهم تلك الكلمات والتعبيرات من السياق الروائي، علاوة على تطعيم العمل بملامح من الخريطة الاجتماعية للحياة في النوبة في زمن الرواية، بما في ذلك تفاصيل العُرس وأغنياته، والظواهر الطبيعية مثل الإشارة لفيضان «الآركي»، وألعاب الأطفال الشعبية مثل لعبة «الهندكية»، ورسم مشاهد صاخبة لموسم بيع البلح، و«التورة» عملة النوبيين، وغيرها من ملامح العمل التي تعزز آصرته بالبيئة النوبية القديمة وتحوّلاتها المشهدية.

صحيفة الشرق الأوسط اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى