الأموات الذين صوّتوا معنا للحياة…
لن أذكر اسم صاحبي , لكني سأفشي سرّه “الدفين “و”الخطير” حين اعترف لي هامساً :
ـ “اللعنة ، ما هذه الورطة التي وقعت فيها … لقد وجدت نفسي مجبراً ومضطرّاً لتلويث إصبعي بالحبر قبل مغادرة بيتي كل صباح اتقاء لنظرات الماكرين بعد ارتكابي لخطئي الفادح في عدم ذهابي للاقتراع …بالله عليك يا صديقي، قل لي كم تدوم فاعليّة هذا الحبر المزمن ؟”……
ترى، ما الذي جعل التونسيين يتزاحمون على تخصيب أصابعهم بالحبر الانتخابي أكثر من مرّة، ولفترة تزيد عن الشهر دون كلل أو تذمّر، بل ويتباهون برفعها في حواراتهم الصاخبة ولا يتوانون عن الغمز واللمز وازدراء من كانت إصبعه “نظيفة” دون عذر شرعي ” …!
إنه الجرح السوري الذي يمتدّ وجعه فينا كل لحظة .. إنه الخوف من قذارة ما يدبّر وينفّذه “فقهاء الظلام ” وأمراء التكفير والنخّاسون الجدد.
إنها الرغبة في جدوى حياة تليق بأحفاد ابن خلدون ــ نعمة الخالق، رسالة وأمانة المبدعين الأوائل من رجالات التنوير في هذه البلاد الطيبة و التوّاقة للحرية والجمال. .
ظهرت نتيجة الانتخابات وكانت برداً وثلجاً وسلاماً تزامن ـ وبشكل مبهج ـ مع مولدي رسول المحبة ونبي الرحمة …” انظر كم نشبه أوروبا ثلجاً وديمقراطية …لعلّها إشارات البشارة السماوية ” …قال صديقي ذو الإصبع الملطّخة بالحبر المزيّف .
انتابتني رغبة جارفة في الوقوف إجلالاً وامتناناً لمن أحب الوجود الكريم وآمن به مغامرة طهارة، فصادف أن وقفت أمام قبر المفكّر التونسي وواضع البرامج التعليمية والثقافية مع رفاقه فجر الاستقلال، إنه الكبير الذي عرفته دمشق محاضراً وزائراً ومحبّاً “محمود المسعدي “.
لقد سبقه القرن الماضي بسنوات قليلة ولكنّه سبق العصر ومعاصريه في كتابة الرواية الوجوديّة من ” ألبير كامو “و”جان بول سارتر” و” اندريه جيد ” غرباً إلى صبري موسى وميخائيل نعيمة وتوفيق الحكيم شرقاً .
رحل عن عمر يناهز المائة عام من الرّهان على قداسة الفعل و شرف المحاولة لدى إنسان الشرق الحائر و الثائر.
رحل دون نوبل-ع لى عكس توقّعات كلّ الذين قرؤوه- تماماً كشخوص رواياته الذين يراقصون البطولة – كالمستحمّ بالنور- دون أن يدركوها أو يتقمصوها .
…وكأسماء أبطاله غيلان في (السد)، مدين في (مولد النسيان) وأشهرها (أبوهريرة) في رائعته: (حدّث أبو هريرة قال..)-تجدر الإشارة هنا أن ليس للاسم أي صلة بالصحابي و الراوية المعروف.. ربما ضمن إحالات رمزية بعيدة -.
قال عنه طه حسين: (الأزهري، الدرعمي، السوربوني )” إنّ الوجوديّة قد أسلمت على يد محمود المسعدي “، وقال آخر معقّباً: أظنّها تعرّبت على يديه ثمّ أردف ثالث مصحّحاً:هو الذي أوجد الوجوديّة ثمّ انسحب كوجوديّ حقيقيّ يسكنه العدم ليتركها للمتفذلكين و الإدّعائيين.
محمود المسعدي الكاتب والمفكّر والمناضل النقابي التونسي الذي جمع بين ثقافتي جامع الزيتونة وجامعة “السّوربون ” دون عقد أو مركّبات، يكتب ويتحدّث بالفرنسيّة فيدهش أهل موليير وكذلك يفعل بالعربيّة، يوقظها من سباتها فتظنّه قادماً من القرن الرابع الهجري أو واحداً من” إخوان الصفاء” في أزمة عصرهم .
وشم عبارته المعروفة في ذاكرة الدّارسين: >>الأدب مأساة أو لا يكون<<
فحسم كلّ سجال قد يقوم حول ماهيّة الكتابة ورسالتها مستشرفاً تراثاً أعاد فهمه وتنقيته من الشوائب بل وجعله منطلقاً لمعضلة الحداثة دون أن يخلط الزيت بالماء.
خطّ في صفحة إهدائه لرواية (حدّث أبو هريرة قال) العبارة التالية: ” إلى والدي رحمه الله الذي رتّلت معه صباي على أنغام القرآن وترجيع الحديث ممّا لم أكن أفهمه طفلاً ولكنّي صغت منه لحن حياة وعلّمني على أنّ الوجود الكريم مغامرة طهارة جزاؤها طمأنينة النفس في عالم أسمى فأسمى,,,وفوق ذلك كلّه علّمني بإيمانه سبيل إيماني”.
كانت ولا تزال كتابات المسعدي خطراً على اطمئنانا، تستنطقنا بلا رحمة عن كلّ ما يتعلّق بوجودنا من موت وولادة وحبّ وفعل وفكر وحياة وسياسة، تجعلنا نقرأها دون تثاؤب ونعيد قراءتها دون ملل وننتهي من قراءتها فلا تفارقنا، هذا هو حال الأدب الساحر والفن الرّفيع و..المسؤول.
أمّا الأبعد من ذلك كلّه ـ وفي مثل هذه الأيام ـ فإنّي أرى أنّ المسعدي ورفاقه قد انتخبوا معنا ومنحوا أصواتهم للحياة، بل وأكاد ألمح الحبر الأزرق يزهر فوق شواهد قبورهم ويعد الأحياء بمزيد من الحياة .
لا شكّ أنّ لسورية ـ كما لتونس ـ سدّاً منيعاً بناه مبدعون ومثقفون ورجالات دولة هم الآن تحت التراب وبعضهم فوقه، سدّ سوف يتصدّى وبكل تأكيد لهواة القتل وأعداء الحياة والياسمين….والإنزلاقات الخطيرة التي أضاعت البوصلة .