الإسلام في سوريا
كان الشيخ الطرابلسي رشيد رضا، وهو رئيس «المؤتمر السوري العام» الذي بايع في 8 آذار/ مارس 1920 الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على المملكة السورية، أستاذاً لمؤسِّسي الحركتين الأصولية «الإخوانية» حسن البنا، والسلفية محب الدين الخطيب. دفع سقوط دمشق بيد الفرنسيين بعد أربعة أشهر ونصف شهر الشيخ رضا نحو التشدد ونبذ الاعتدال الذي تلقّاه من الشيخ محمد عبده. شارك دمشقي آخر في تأسيس الحركة السلفية مع الشيخ الخطيب هو ناصر الدين الألباني.
في ثمانينيات القرن العشرين، كان سوري آخر اسمه محمد سرور زين العابدين، وكان قد ذهب لتدريس الرياضيات في السعودية عام 1965، بمنزلة الجسر بين الأصولية «الإخوانية» بطبعة سيد قطب وبين السلفية الوهابية، وقد كان «التيار السروري» مهيمناً على الأوساط الثقافية والأكاديمية في الثمانينيات والتسعينيات في السعودية والخليج، ويُعدّ مؤسِّساً، مع الشيخ الفلسطيني «الإخواني» عبد الله عزام، أستاذ أسامة بن لادن، لتيار السلفية الجهادية بعيداً عن السلفية الدعوية التي ترفض الخروج على الحاكم، إذ مزج الشيخ سرور زين العابدين السلفية الوهابية مع فكرة الحاكمية الآتية من سيد قطب، وكان لتياره تأثير واضح في تنظيم «أحرار الشام» الذي أسّسه حسان عبود بعد خروجه من السجن بعفو في 31 أيار/ مايو 2011. كان هناك سوري آخر هو مصطفى ست مريم نصار (أبو مصعب السوري) أتى إلى أفغانستان في الثمانينيات من تنظيم «الطليعة المقاتلة» الذي أسّسه الشيخ مروان حديد عام 1975، وساهمت تنظيراته في تأسيس تنظيم «القاعدة» الذي تبنّى اتجاه السلفية الجهادية، وهناك مؤشرات كثيرة على أن له تأثيرات واضحة في «خلية هامبورغ» التي شكّلت عصب عملية 11 أيلول/ سبتمبر 2001.
كانت الأصولية «الإخوانية» عند المراقب العام لجماعة «الإخوان المسلمون» في سوريا، الشيخ مصطفى السباعي (1946 – 1964)، ذات طابع معتدل، وهو الذي قام على الحل الوسط عندما جرى جدل سوري عام حول المادة المقترحة بمشروع دستور 1950: «دين الدولة الإسلام»، مُقترِحاً استبدالها بالمادة الثالثة من الفصل الأول من دستور 1950: «دين رئيس الجمهورية الإسلام. الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع». وعلى رغم صدام «الإخوان المسلمون» في مصر مع الرئيس جمال عبد الناصر، فإنه اتخذ موقفاً معتدلاً من الوحدة السورية ــــ المصرية، وكان كتابه «اشتراكية الإسلام» بمكانة المعتمد الرسمي في التسويغ الفكري للإصلاح الزراعي عام 1958.
ليس مصادفة أن يؤلف الشيخ الحموي محمد الحامد، أستاذ مروان حديد، كتاباً مضاداً لكتاب السباعي، وربما كان طغيان التشدد عند جماعة «الإخوان المسلمون في سوريا» منذ أحداث مدينة حماة في نيسان/ أبريل 1964 بمكانة اتجاه عام جعل شمس مصطفى السباعي تغييب لمصلحة بروز متشددين مثل مروان حديد، وسعيد حوى الذي كان بدوره أيضاً من تلاميذ الشيخ الحامد، وكان من أبرز قادة «التنظيم العام لجماعة الإخوان» في أحداث حزيران/ يونيو 1979 ــــ شباط/ فبراير 1982. في المقابل، كان الشيخ محب الدين الخطيب (جد معاذ الخطيب) بعيداً عن السياسة، ولكن مع تشدد فكري ــــ عقيدي ضد الشيعة وصل إلى حدود صدامه مع الشيخ حسن البنا لما فكّر في النصف الثاني من الأربعينيات في التقريب المذهبي بين السنة والشيعة.
وقد كان الشيخ الألباني أيضاً بعيداً عن السياسة، مقتصراً على سلفية دعوية، ولكن فيها أيضاً الكثير من التشدد الفكري ضد الشيعة وضد السنة الآخرين وخاصة الصوفية. كان لافتاً أن تصير هذه السلفية بمنحى سلفي جهادي، بمزج فكرة «الحاكمية لله» التي قدّمها سيد قطب عام 1964 في كتابه «معالم في الطريق»، مع التشدد الفكري العقيدي الموجود أصلاً عند السلفية الدعوية، سواء عند الوهابية أو عند الشيخين الخطيب والألباني.
إذا حسبنا دور السوريين في التأسيس الفكري للتيار الإسلامي السياسي، الذي هو تيّار حديث زمنياً بدأ في آذار/ مارس 1928، فإن مساهمتهم تفوق المصريين، وتفوق الهندي، ثم الباكستاني أبو الأعلى المودودي الذي وضع فكرة «الحاكمية» عام 1941 في كتابه «المصطلحات الأربعة في القرآن»، قبل أن يأخذها سيد قطب من المنحى الفكري إلى المنحى السياسي ــــ التنظيمي، ثم لتصير فكرة تأسيسية لتيار السلفية الجهادية. يمكن قياس ذلك من خلال سلسلة: رشيد رضا، محب الدين الخطيب، ناصر الدين الألباني، محمد الحامد، محمد سرور زين العابدين وأبو مصعب السوري.
في المقلب الآخر، كان هناك الإسلام الرسمي بالقياس إلى الإسلام السياسي: يمكن قياس الإسلام الرسمي، بنفوذه وتأثيراته، عبر الشيخين أحمد كفتارو، شيخ الطريقة النقشبندية الصوفية ومفتي الجمهورية العربية السورية، ومحمد سعيد رمضان البوطي الأستاذ في كلية الشريعة بجامعة دمشق، الذي اعتمد مثل الصوفية على العقيدة الأشعرية (أبو الحسن الأشعري، المتوفى عام 935 ميلادية/ 325 هجرية، ثم أصبح مذهبه مذهباً رسمياً للدولة العباسية عام 487 هجرية) التي تقول بـ«مناصحة الحاكم» و«عدم الخروج على الحاكم». كان الشيخان كفتارو والبوطي حلفاء أساسيين للسلطة السورية منذ يوم 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، وكانت مساهمتهما أساسية في تقديم الغطاء الاسلامي للسلطة في مجابهة 1979 – 1982 ضد «الإخوان»، وللبوطي بين عامي2011 – 2013 ثم لتلاميذه ولتلاميذ الشيخ كفتارو، ذلك الدور الكبير في مجابهة السلطة السورية للأصولية الإخوانية والسلفية الجهادية في مجابهات 2011 – 2018.
أخذ «الإسلام الرسمي» مقابل ذلك أثماناً كبيرة من السلطة السورية في مجالات التشريع والثقافة والتربية. هذا أمر معروف وواضح خلال الأعوام الثمانية والأربعين السورية الماضية. ليس صحيحاً في تعبيره عن الواقع ذلك المصطلح المسمى «البعث الإخواني» الذي يطلق على تحالف السلطة السورية مع الإسلام الرسمي، فكلاهما أعداء في الفكر والسياسة لتيار الإسلام السياسي بطبعتيه الأصولية الإخوانية والسلفية الجهادية، وبينهما وبين الإسلام السياسي أنهار من الدماء في موقعتَي 1979 – 1982 و2011 – 2018، وكل محاولات التفاوض بين السلطة و«الإخوان»، التي جرت عامَي 1984و1987، ثم محاولات الوساطة بينهما التي قامت عليها حركة «حماس» ثم رجب طيب إردوغان في 2006 – 2011، لم تكن السلطة سلبية تجاهها فقط، وإنما أيضاً الإسلام الرسمي. في 8 آذار/ مارس 1963 – 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970 جرّب حزب البعث الحاكم في دمشق الحكم من دون الإسلام الرسمي، في ظل مجابهة معلنة مع «السياسي» منذ نيسان/ أبريل 1964. لم تستقر السلطة السورية إلا منذ 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970 عندما نشأ تحالف السلطة مع الإسلام الرسمي، ومع التجار والصناعيين ورجال الأعمال. كان هذا التحالف الثلاثي هو الجدار الذي حمى السلطة السورية ومنعها من السقوط أمام عاصفة 1979 – 1982، ثم العاصفة الثانية الأقوى 2011 – 2018.
صحيفة الأخبار اللبنانية