الإسلام والسياسة في الشرق الأوسط
تأليف: مارك تسلر
الناشر: مطبعة جامعة إنديانا، نيويورك، 2016
عدد الصفحات: 264 صفحة
يعكس هذا الكتاب حقيقة التطور الذي استجد على اهتمامات الأوساط البحثية والدوائر الأكاديمية في الخارج، وخاصة منذ العقود الأخيرة من القرن العشرين، بما أصبح يسود منطقة الشرق الأوسط من دعوات وأفكار واتجاهات وتيارات ونزعات، وفي مقدمها ما يحمل عنوان الإسلام، حيث تتنوع هذه التيارات وتتنوع الاختلافات. وخاصة على مستوى القواعد الشعبية والمواطنين العاديين، بين دعوات التطرف والسلوكيات العنيفة، إلى نهج الاعتدال والتواصل السليم، والمطلوب أيضاً، بين الجانبين الإسلامي – الروحي والوطني- القومي.
على أن الكتاب يتميز بأنه لم يقصر رؤاه وطروحاته العلمية على اتباع مسار البحوث النظرية، بعد أن عمد المؤلف إلى تعّدي هذا الجانب إلى اتباع نهج البحث الاستقصائي والنهج الميداني، الذي غطى نحو 15 قطراً في الشرق الأوسط- شمال أفريقيا، وقام بتنفيذ 42 مسحاً علمياً على مدار فترة زمنية قوامها 23 سنة.
وبرغم هذا التباين في الآراء التي خلصت إليها مفردات هذا البحث، فإن الكتاب يؤكد في نهاية المطاف على ما يسود المنطقة من شبه إجماع على أن الأسلوب الديمقراطي في إدارة مؤسسات الحكم، وفي التعامل مع المواطنين، وفي مناهج الاقتراب من القضايا والمشكلات، هو أفضل السبل من حيث التوجه نحو المستقبل.
درج المؤلفون، ومن ثم القارئون، على عرض ومطالعة الأفكار، وطرح ما قد يتوصل إليه هذا الباحث أو ذلك المفكر من آراء واستنتاجات بشأن هذه القضية أو تلك المسألة، حيث يجري إيداع هذه الأفكار والطروحات بين دفتي كتاب، يتعايش القارئ عبر صفحاته وأبوابه وفصوله، مع ما يتراءى للمؤلف وما يخطر على بال المفكر.
وإذا كان مثل هذا الأمر يجوز إلى حد ليس بالقليل في حالة التفكير الفلسفي أو التحليل المنطقي، ناهيك بالطبع عن مجالات الأدب بكل صوره الإبداعية، إلا أن المجال السياسي لا بد أن يحظى بنوعية مختلفة من أنماط الدرس والطرح والبحث والاهتمام. هنا نصل إلى ضفاف ما يمكن أن يوصف بأنه أسلوب البحث الميداني الذي يُسلّم إلى ممارسة أسلوب الاستقراء العلمي أو الاستنتاج النهجي، بمعنى التوصل للنتائج وطرح الأحكام مستقاة من واقع البيانات المطروحة بدورها على أساس عالم الواقع المعاش على صعيد الميدان، وهو حياة الناس .
منظور المكان والزمان
هذا هو بالضبط النهج الذي نصادفه من خلال معايشتنا للكتاب الذي نقلب صفحاته ونتأمل أفكاره في ما يلي من سطور.
يحمل الكتاب عنواناً نراه بالغ الأهمية من حيث المكان، بقدر أهميته أيضاً من منظور الزمان. من حيث المكان، يركز الكتاب بحوثه وطروحاته على منطقة الشرق الأوسط، التي تعيش فيها شعوبنا. ومن منظور الزمان، تدور هذه الطروحات في المرحلة الزمانية الراهنة، حيث يتمثل محور بحوث الكتاب حول قضية جوهرية، اختارها المؤلف عنواناً لهذا الكتاب وهي «الإسلام والسياسة في الشرق الأوسط».
ومنذ البداية، يتميز كتابنا بأنه لا يطرح أفكار مؤلفه بأسلوب التأمل أو الإرسال، بقدر ما نشهد للمؤلف بما عمل على بذله من جهود ميدانية دؤوبة، بمعنى مبذولة في أرض الواقع الشرق أوسطي على اختلاف الظروف والشعوب والأفراد، متّبعاً في هذا المنحى ما يوصف في مضمار البحث العلمي بأنه النهج الإمبريقي- الميداني- في جمع المادة العلمية، بهدف تصنيفها وتبويبها، تمهيداً لتحليلها واستقاء النتائج والأحكام .
من هنا، جاء الحرص على استكمال العنوان الذي عرضنا له بعنوان رديف له دلالته الشارحة، وهو: تفسير آراء المواطنين العاديين.
في تصدير هذا الكتاب، يذهب المؤلف إلى أن الإسلام أصبح يشغل موقعاً محورياً في المناقشات والمحاورات التي تدور حالياً في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (بمعنى أقطار المشرق العربي والمغرب العربي) حيث توافرت للبروفيسور، تسلر سبل المعرفة الوثيقة والميدانية أيضاً، بحكم سنوات أتيح له أن يقضيها، وخاصة في الأقطار المغاربية.
ويمضي هذا التصدير موضحاً، أن الشأن الإسلامي لم يعد مقتصراً –لا سيما في الفترة الراهنة – على محافل المفكرين، أو دوائر المثقفين، أو أبراج العلماء العاجّية، كما يسمونها، بقدر ما اتسع نطاق هذا الاهتمام، ليشمل مؤسسات المجتمع وأساليب الحكم (الحوكمة) ومجالات صنع وإنفاذ القانون، فضلاً عن اهتمامات وشواغل، بل وحياة المواطن العادي بشكل عام.
أربعة فصول بارزة
تتوالى مضامين الفصول الأربعة الأساسية التي تؤلِّف متن هذا الكتاب، حيث يبدأ أولها بالشكوى إزاء شحّة الدراسات الميدانية- الإمبريقية بالذات، التي شهدها مجال البحث العلمي، من حيث تدارس ظاهرة بالغة الحيوية، وهي الأكثر مساساً واتصالاً – كما هو معروف – بحياة الإنسان المسلم المقيم في تلك الأصقاع الشرق أوسطية، مشرقاً ومغرباً على السواء.
أما الفصل الثاني، فهو يركز بالذات على القضية ذات الأهمية القصوى بالنسبة لمؤلف الكتاب، وتتلخص في عنوان الفصل المذكور، وهو: الإسلام في حياة المسلمين العاديين.
وهنا، تحاول البيانات المجموعة بأسلوب الاستقصاء الإحصائي، أن تستكشف أبعاد وفعالية الدور الذي باتت تمثله عقيدة الإسلام في حياة المسلم المعاصر، سواء تجلى هذا الدور في واقع الفكر والسلوك الفردي، أو اتسعت تجلياته إلى ما جاوز الفرد من تجمعات ومؤسسات.
الفصل الثالث، يصل إلى محّصلة مفادها أن الحوارات والمناقشات، والمناوشات أيضاً التي طالما دارت رحاها على صعيد الشرق الأوسط عبر عقود سبقت من الزمن، حفلت باختلاف بين الآراء والتصورات والتوجهات حول دور الإسلام، وخاصة في الشأن السياسي ما بين التأييد والتحفظ.
وهنا، يحرص كتابنا في هذا الفصل الثالث، على تبْيان أن هذا الاختلاف لا يوجد بين الأقطار المعنية فقط، بل إنه يوجد داخل القطر الواحد، وبين صفوف وفئات المجتمع (العربي) الواحد.
لكن، وبرغم هذا التباين، يحرص المؤلف على توضيح أن الاختلاف في الآراء لم يَحُل دون استمرار الحوار، وربما الجدال حول الدور الذي ينبغي إسناده إلى العقيدة في حياة المواطنين، مهما كان الاختلاف في الرأي واضحاً أو مؤثراً في حياة هذا المجتمع المسلم أو ذاك، وهو اختلاف يخلص المؤلف مع الفصل الرابع إلى أنه واقع بين اتجاهين:
• الأول: يذهب إلى ضرورة إسناد دور فعال وعميق التأثير للإسلام في الحياة السياسية للمجتمع.
• الثاني: يقول، من منطلق الاختلاف، إن الدين يشكل بالضرورة أمراً يخصّ الفرد دون سواه (في علاقته بالسماء)، وينبغي الفصل بينه وبين السياسة.
ثم كان بديهياً، ولا يزال، أن يوجد طرف ثالث يحاول أن يوفّق بين هذين الرأيين.
العقيدة واختلاف أدوارها
أخيراً، يختتم هذا البحث بعشر صفحات، يؤكد فيها المؤلف، البروفيسور مارك تسلر، على أنه مهما كان أمر الاختلاف حول دور العقيدة الإسلامية في مجتمعات الشرق الأوسط، ما بين دور حاضر وباتٍّ ودينامي في السياسة.وربما في سائر مظاهر وقضايا الشأن العام، من اقتصاد وثقافة وتنمية وما إلى ذلك، إلى دور يكاد يقتصر على الحياة الروحية والسلوك العقائدي للمواطن الفرد، ذكراً كان أو أنثى، إلا أن هذه الخاتمة للكتاب، لا تلبث أن تؤكد على أن الدين الإسلامي لا يزال يجّسد الطابع الأيديولوجي- العقيدي المشترك للمجتمعات المسلمة.
هذه الأفكار استندت إلى 42 دراسة استقصائية – (مسْح ميداني كما يقول المصطلح التقني)، تم إجراؤها على مستوى 15 من أقطار المشرق العربي والمغرب العربي، وشملت العينات المفحوصة في هذا الاستقصاء، عدداً وصل إلى 60 ألفاً من رجال المنطقة ونسائها.
والحاصل أن دراسة البروفيسور تسلر جاءت بوصفها حلقة في سلسلة طويلة ومتنوعة من الدراسات الميدانية، التي بدأت منذ مطالع عقد التسعينيات من القرن العشرين، وخاصة على صعيد أقطار شرقي أوروبا، بعد زوال الوجود الشيوعي والهيمنة السوفييتية، وخضوع الأقطار الأوروبية المذكورة لمتغيرات جذرية، استردت فيها هويتها القومية وشخصيتها وثقافتها الوطنية بعد خروجها، كما هو معروف، من ربقة وصاية الكرملين في موسكو الماركسية.
في هذا الإطار، بدأت تتنامي ظاهرة الاهتمام بالمواطن العادي، ومن ثم انعكست هذه الظاهرة في انتشار الدراسات العلمية، التي تحرص على استطلاع رأيه/ رأيها في مجريات وتطورات الشأن العام، خاصة في ظل التطور الجذري، الذي استجّد منذ أواخر القرن المنصرم، على السبل التي أصبح بالإمكان أن يتم من خلالها بثّ الرسالة الإعلامية، سواء من خلال الميديا التقليدية، مطبوعة أو مسموعة أو مرئية، أو كان ذلك أيضاً من خلال ما أصبح يعرف باسم وسائل التواصل الاجتماعي.
وعندما حلّ عام 1999، طرحت أستاذة علم السياسة في أميركا ليزا أندرسون، أفكارها بشأن أهمية إجراء الدراسات والبحوث الميدانية على نطاق واسع لاستطلاع آراء مواطني العالم العربي. وفي هذا الإطار، حرصت دوائر البحث العلمي في أميركا بالذات، على تشجيع وتنفيذ الدراسات الإمبريقية، التي ركزت بوجه خاص على دور الإسلام.
المسلم الفرد وواقعه
الفرد كان لا يدلي بآرائه، أياً كانت حريته وبلاغته أو دقته في هذا الإدلاء- من واقع تجربته الفردية أو أحواله المعيشية فقط: الفرد كان يعّبر عما يساوره من أفكار وآراء، من منظور الواقع الأوسع الذي يحيط به، والأنساق الاجتماعية الأعرض التي يعيش فيها ويتفاعل معها.
ويحمد لمؤلف الكتاب، أنه ظل يصدر عن منطلق إيجابي، بمعنى أن الأسئلة التي عكف على تصميمها مع مساعديه في استمارات البحث – الاستبيان، لم تبدأ بموقف إسلام أو لا إسلام، لكنها استهلت استفساراتها بسؤال يبدأ بالإسلام، تسليماً وتكريساً، وبعدها تعددت الأسئلة بشأن دور العقيدة ومكانتها، على مستوى الفرد أو المجموع أو على صعيد الدولة أو الجماعة الوطنية – القومية بشكل عام.
4 طموحات للمواطن العربي
يورد الباحثون الميدانيون ملاحظة لها دلالتها، حين يسجلون أن عام 2011، كان يشكل البداية المحورية لما رأوا فيه انفتاحاً على صعيد الشرق الأوسط، متمثلاً في حرية إبداء الآراء من جانب المواطنين العاديين على صعيد مشرق المنطقة ومغربها، بعد أن كان الباحث الميداني المقبل بالذات من الغرب الأوروبي- الأميركي، يلقى عنتاً ويصادف صعوبات، إذا ما كان يستهدف استقاء آراء هؤلاء المواطنين.
يضاف إلى هذا العامل الإيجابي المستجد، حقيقة أن السنوات الأخيرة من أول عقود هذه الألفية شهدت موضوعياً زيادة الاهتمام بمستوى وإجراء البحوث الميدانية.
أياً كان الأمر، فإن نتائج الدراسة التي عرضت لها فصول هذا الكتاب، تكاد تتلخص في مقولة نحاول أن نعرضها بتكثيف شديد على النحو التالي:
إن النسبة الأكبر من اتجاهات الرأي العام، على نحو ما عبرت عنه إجابات وآراء عدد كبير وتمثيلي أيضاً من المواطنين المسلمين العرب العاديين، وبعد أن أتيح لهم سبل التعبير الحر عما يراودهم من أفكار، وما يساورهم من خواطر، وما يتراءى لهم من آراء – هذه النسبة، كما يؤكد كتابنا، تكاد تُجمع على أمور- طموحات أساسية تتلخص في:
• المطالبة بأن تسود الديمقراطية، لا على أساس مجرد الشكل أو الممارسة أو الصيغة الديمقراطية المتعارف عليها، ولكن على أساس اقتران الديمقراطية بتحقيق العدل وتكافؤ الفرصة وشفافية التعاملات.
• إن الآفة الأساسية التي لا تزال تؤرق حياة المواطن العادي المسلم- العربي – تكاد تتلخص في كلمة واحدة هي: الفقر.
• إن ثمة انقساماً لا يزال قائماً في حياة شعوب ومواطني الشرق الأوسط، ويتمثل في اختلاف آراء وتوجهات المواطنين حول دور الإسلام في الحياة السياسية، وحول ضرورات التمييز علمياً وفكرياً وسلوكياً وموضوعياً بين السياسي والديني، فضلاً عن أهمية التوصل إلى حالة من التوازن- التواؤم أو الاتساق بين هذين الجانبين في حياة الأفراد والمجتمعات.
• إن آراء وتوجهات الفرد (كما تدل على ذلك المسوح الميدانية)، التي يعرضها هذا الكتاب، لا تصاغ بشكل تلقائي، ولكنها تتأثر بالضرورة بالعوامل والملابسات التي تحيط بالفرد المفحوص. وهذه العوامل تتمثل أولاً في المستوى التعليمي، ثم في الإدراك والتحصيل الثقافي، فضلاً عن الحالة الاقتصادية والانتماء الفئوي والوضع الطبقي.
أهمية مستوى التنمية
الفرد في الشرق الأوسط يتأثر بالضرورة من واقع نوعية المنظومة الحاكمة التي تتولى مقاليد السلطة وتدير مؤسساتها في هذا البلد أو ذاك.
والمعّول عليه في هذا السياق، هو مستوى التنمية المتحقق على المستوى الوطني– القومي، وخاصة ما يتعلق بالتنمية البشرية، تلك التي تتفاعل على مهادها عوامل الاقتصاد والثقافة والاستنارة، بمعنى العوامل المادية، ومنها بالطبع سبل المعيشة، مع العوامل غير المادية، وفي مقدمها بدورها الجانب الروحي- العقيدي المتمثل في سياقنا الحالي في الدين الإسلامي الحنيف.
المؤلف
جمع البروفيسور مارك تسلر بين الاختصاص العلمي في البحوث السياسية المقارنة، وبين الاهتمام بالبحوث المتعلقة بالقارة الأفريقية، تستوي في ذلك دراسته عن الشمال الأفريقي بقدر ما تستوي أيضاً أرجاء أفريقيا جنوبي الصحراء الكبرى.
وقد صدرت للمؤلف دراسات من قبيل «الرأي العام في الشرق الأوسط: بحث استقصائي». أو دراسته الصادرة عن «استراتيجيات فهم السياسة في الشرق الأوسط»، وهما بحثان أصدرهما المؤلف ضمن 15 كتاباً.
صحيفة البيان الأماراتية