الإنتلجنسيا الروسية والمثقفون السوريون: فروقٌ جوهريّة
سبق أن أشرنا سريعاً إلى سطحية التشابه بين الإنتلجنسيا الروسية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين والمثقفين الديموقراطيين السوريين خلال نصف القرن الماضي. ففي حين بدا هؤلاء المثقفون أصحاب مبادرة ودور قيادي في ثقافة المجتمع وسياساته، مستعدّين لدفع أثمان باهظة مقابل نشاطهم الملتهب، نجد حين ندقّق أنهم كانوا في كتلتهم الرئيسة والسائدة بعيدين عن ذلك كلّ البعد.
ليس لدى المثقفين السوريين أيّ مشاريع نظرية وفكرية يمكن أن نضعها إزاء ما ابتدعته الإنتلجنسيا الروسية؛ ولا أعمال أدبية يمكن أن ترقى بحال إلى ذلك الحشد من الروائع الروسية، برغم بعض الأسماء اللامعة التي تدين بإبداعها إلى مراحل أسبق في الحقيقة؛ ولا مشاريع وبرامج سياسية؛ بل إننا لا نكاد نجد حتى دراسات ذات قيمة عن بنية البلد الاجتماعية الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية وتاريخ تكوّنها. جلّ ما نجده شعارات ومطالب سياسية تُحسَب خطأً أنّها رؤى فكرية. حتى الأطروحة السياسية الأهمّ لدى هذا التيار، «التغيير الوطني الديموقراطي»، ببعد نظرها وإدراكها تكوين البلد وتناقضاته وتوازن قواه، سرعان ما كانت تُرمى جانباً كلّما لوّح لهؤلاء أحد، سواء أكان النظام نفسه أم خصومه.
وإذا ما كانت الإنتلجنسيا بعيدة عن شعبوية عموم المثقفين، لا تتنازل عن معرفتها العلمية برغم انحيازها للقيم الديموقراطية ومصالح الناس، فإنّ المثقفين السوريين يبدون انتقالاً سريعاً ومفاجئاً من احتقار الشعب الصامت إلى تقديس الشعب الصارخ، من الدعوة إلى العمل الثقافي البعيد عن السياسة إلى الانخراط السياسي التام لإسقاط النظام ثم إلى الفرار حتى من المناطق التي سقط فيها.
هكذا انتقل هؤلاء من مديح الأنظمة البرجوازية الصغيرة القومية غير النقدي حتى أواسط السبعينيات إلى اعتبار التمرد الإسلامي المحدود عليها أوائل الثمانينيات حركة شعبية تلفّ سوريا من أقصاها إلى أقصاها. وبدوا في 2011 كأنّهم يحولون «الشباب» إلى أسطورة. والتحقوا بمشروع «الإخوان المسلمين» وامتدحوا حتى «النصرة» و «داعش» من دون أي انتقاد إلا بعد فوات الأوان ومن منطلق الخندق الواحد. وطالبوا بتدخّل حلفائهم الخارجيين (أميركا وأوروبا والخليج وتركيا) من دون أيّ تبرير نظري يتعدّى مظالم النظام وخزعبلات شعبوية، مفادها أنّهم لا يسمحون لأنفسهم بأن يتعالوا على «الحراك» أو بأن يطالبوا «الشعب» بغير ما يفعله.
وكما يُفَسَّر الدور اللافت الذي لعبته الإنتلجنسيا الروسية من خلال تاريخ روسيا الاجتماعي الثقافي وموقعها فيه، لناحية الانشقاق الحادّ بينها وبين الفئة الحاكمة وانقطاع الصلة بين ثقافتها الرفيعة والثقافة الشعبية المتدنية، فإنّ تفسير الدور الذي لعبه المثقفون السوريون يكمن أيضاً في تاريخ سوريا الاجتماعي الثقافي وموقعهم فيه، لناحية الانشقاق غير الحاد بينهم وبين النظام السياسي إلا متأخّراً، ولناحية الالتحاق بمشاريع سياسية مناقضة لمشروعهم الديموقراطي، إسلامية غالباً.
هذه التبعية لمشاريع أخرى، سلطوية وإسلامية، تفاقمت في العقود الأخيرة بتحوّل عالمي أطاح دور المثقفين النقدي والأخلاقي لمصلحة فكر ليبرالي ضامر، يركّز تركيزاً قاصراً على حقوق الإنسان، ويفهم العدالة فهماً ضحلاً وفوضوياً، ويُحِلُّ الناشطَ محل المناضل، والمنظمات غير الحكومية المتموّلة والمرتبطة محل أحزاب المناضلين ونقاباتهم، ويحتفي بصعود التيارات الهوياتية الطائفية والقوموية الشعبوية ذلك الاحتفاء المجرم.
صحيفة السفير اللبنانية