الاتفاق الصينيّ – الإيرانيّ.. ماذا عن المنافس التركيّ؟
الاتفاق الصينيّ من أجل صفقة شاملة تحدد مسار السياسة التركية الخارجية مع استمرار المدّ والجزر في الموقف الأميركي تجاه طهران وملفها النووي، جاءت الاتفاقية الإيرانية – الصينية لتضع كل الأطراف الإقليمية والدولية أمام حسابات وتحديات جديدة، لن تكون في جميع الحالات لمصلحة الدول والقوى الإمبريالية والاستعمارية وحليفاتها في المنطقة، بما فيها “إسرائيل”.
كما جاءت الاتفاقية بعناوينها المهمة والمختلفة بمثابة الرد الإيراني العملي على “وقاحات” بعض العواصم الغربية والعربية التي كانت تعتقد أنّ ضغوطها على طهران قد تساعدها على الحد من الدور الإيراني في المنطقة، وذلك مع استمرار الحرب الساخنة في اليمن، والحديث عن مؤامرات جديدة تستهدف سوريا ولبنان، عبر العقوبات التي كان البعض يتوقع لها، وما يزال، أن تكون كافية لإجبار هاتين الدولتين وقواهما الوطنية الشريفة على الاستسلام.
تركياً، جاءت الاتفاقية بعد يوم من زيارة وزير الخارجية الصيني وانغ يي إلى أنقرة ولقائه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وسط انتقادات عنيفة من المعارضة التي تتهمه بتجاهل وضع الإيغور، الأقلية المسلمة في الصين. وقد جاء الآلاف منهم إلى تركيا، ودخلوا منها إلى سوريا، للقتال في صفوف “النصرة” و”داعش” وفصائل أخرى.
لم تعلّق أنقرة على هذه الاتفاقية التي تزامنت مع استمرار الفتور الذي يخيّم على العلاقات الأميركية – التركية، وسط المعلومات التي تتوقع للرئيس بايدن أن يجلس إلى الطاولة مع إردوغان، من أجل صفقة شاملة ستحدد مسار السياسة التركية الخارجية بكل ما لها وما عليها، وفق الحسابات الأميركية، وفي الدرجة الأولى علاقة أنقرة مع كل من موسكو وطهران، وبمعطيات أقل مع بكين، التي يسعى الرئيس التركي إلى تطوير علاقاته الاقتصادية والتجارية معها.
يعرف الجميع أن التقارب الإيراني – الصيني، بانعكاساته على دور الدّولتين معاً أو كلّ على حدة في العراق وسوريا ولبنان والمنطقة عموماً، لن يكون لمصلحة الحسابات التركية، وخصوصاً مع استمرار التنسيق والتعاون الإيراني – الروسي المدعوم صينياً ضد تركيا (ولو بشكل غير مباشر) في سوريا. وقد سعت أنقرة لموازنته باتفاق الدوحة الأخير، من دون أن نتجاهل المنافسة التاريخية التقليدية، وأحياناً الخصومة الطائفية بين تركيا وإيران، إذ تتهرّب طهران من أيّ موقف استفزازيّ ضد أنقرة، ما دامت ترى في “العدالة والتنمية” حزباً إسلامياً يجب التهرب من معاداته، على الرغم من كل المواجهات الساخنة، المباشرة منها وغير المباشرة، بين الدولتين داخل أراضي الجارتين سوريا والعراق.
لم يتأثّر هذا الموقف الإيراني تجاه “العدالة والتنمية” وزعيمه إردوغان بالتغيرات والتقلبات والتناقضات المعروفة، على الرغم من أحاديث الأوساط القومية والعثمانية خلال الحرب الأرمينية – الأذربيجانية عن حقوق الأقلية الآذرية غرب إيران.
وقد أراد الرئيس إردوغان لهذه الحرب أن تساعده لتحقيق حلمه الأكبر على طريق وحدة الأمة التركية، من البوسنة وحتى حدود الصين. وقد يستهدف ذلك “الصديقتين”، إيران أولاً، ثم روسيا، التي كانت ترى، وما زالت، في الجمهوريات الإسلامية ذات الأصل التركي في القوقاز وآسيا الوسطى حديقة خلفية لها، في الوقت الذي حقَّقت طهران لنفسها تفوقاً عسكرياً واقتصادياً واستراتيجياً في المنطقة عموماً بعد اتفاقيتها مع بكين، التي ستصبح بدورها لاعباً أساسياً في ساحات المواجهة الساخنة في المنطقة، وخصوصاً بعد دخولها منطقة الخليج (مضيق هرمز)، ولاحقاً البحر الأحمر عبر اليمن (باب المندب)، وأخيراً شرق الأبيض المتوسط، أي لبنان وسوريا.
وقد يدفع مثل هذا الاحتمال الذي سيدعم الموقف الإيراني استراتيجياً (ضد “إسرائيل” في الدرجة الأولى) الرئيس إردوغان إلى إعادة النظر في مجمل حساباته الخاصة بالمنطقة، من دون أن يفكّر بأي شكل كان في “التراجع عن موقفه في سوريا وعقدته الشخصية تجاه الرئيس الأسد”، والقول هنا لرئيس تحرير قناة “Tele 1” الإخبارية ماردان ينارداغ.
كما قد يدفعه ذلك إلى تقديم ما سيطلبه الرئيس بايدن من تنازلات كبيرة وصغيرة لدعم موقفه السياسي والعقائدي، وخصوصاً بعد خيبة الأمل التي أصيب بها بسبب الموقف المصري الفاتر تجاه مساعيه للمصالحة مع الرئيس عبد الفتاح السيسي، في الوقت الذي توقع رئيس تحرير موقع الشرق الأدنى، آلبتكين دورسون أوغلو، له “أن يستغل التواجد الأميركي شرق الفرات لدعم موقفه غرب الفرات، بما في ذلك التصدي للضغوط الروسية – الإيرانية في إدلب، كما يستغلّ الطرف الأميركي الموقف التركي في شرق الفرات وغربه لضمان تواجده في المنطقة، دعماً للميليشيات الكردية فيها”.
وتتحدّث المعلومات أيضاً عن إشارات إيجابيّة تبعث بها أنقرة إلى واشنطن لدعم تحركاتها في البحر الأسود، مع مساعي الرئيس بايدن لضمّ جورجيا وأوكرانيا إلى الحلف الأطلسي، لتضييق الحصار على العدو التقليدي روسيا. ويفسر ذلك حديث رئيس البرلمان التركي مصطفى شانتوب “عن صلاحيات الرئيس إردوغان لإلغاء ما يشاء من معاهدات أأو اتفاقيات دولية، بما فيها اتفاقية مونترو للعام 1936، والتي تحدد شروط الملاحة الدولية في مضيقي البوسفور والدردنيل”، وهو ما اعتبرته بعض الأوساط تهديداً مبطّناً لروسيا وسفنها الحربية، وهي في طريقها إلى سوريا والأبيض المتوسط.
وصادف ذلك أحاديث بعض الأوساط القومية التركية عن “خطر” الاتفاق الإيراني – الصيني وما سبقه من زيارة مهمة للوزير الروسي لافروف إلى بكين، باعتبار أن ذلك قد يتحوَّل إلى حلف جديد يستهدف المصالح الاستراتيجية لتركيا وحسابات الرئيس إردوغان القومية والدينية والتاريخية إقليمياً ودولياً.
وقد دفع مثل هذا الاحتمال نائب رئيس الوزراء الأسبق عبد اللطيف شنار (في حكومة إردوغان للفترة 2002 – 2007) إلى الحديث “عن استعدادات الرئيس إردوغان للتقارب مع تل أبيب بعد تشكيل الحكومة الجديدة فيها، مع رغبته الملحة في التقارب مع الرياض، بعد أن تناسى قضية جمال خاشقجي وقاتله محمد بن سلمان، وذلك كخطوة استباقية منه لكسب ود والده الملك سلمان، ليساعده ذلك في تحقيق المصالحة مع القاهرة أيضاً”.
ويبقى الرهان على خيارات الرئيس إردوغان الصّعبة، فإما يمسك العصا من منتصفها، كما يفعل منذ عدة سنوات، وإما ينحاز، ولو قليلاً، إلى أحد الطرفين، أي روسيا وأميركا، وهو ما سينعكس بشكل مباشر أو غير مباشر على مجمل حساباته التكتيكية والاستراتيجية في المنطقة، والتي تؤدي إيران دوراً مهماً فيها، ما دامت مدعومة من روسيا، والآن “الحليف الأهم” الصين، التي سيحسب الجميع لها بعد الآن ألف حساب، والفضل في ذلك لطهران!