الانفتاح التركي على السعوديّة وزيارة جاويش أوغلو للرياض..
تُجَسِّد الزّيارة التي قام بها السيّد مولود جاويش أوغلو إلى الرياض الاثنين الماضي رغبة حُكومتيّ البلدين في الانفِتاح، وكسر حالة العُزلة، التي تعيشانها هذه الأيّام، خاصّةً بعد وصول الرئيس الأمريكي الدّيمقراطي جو بايدن إلى السّلطة الذي لا يكنّ الكثير من الودّ لهما.
الحُكومة التركيّة فاجأت الكثيرين عندما فتحت قنوات الحِوار مع نظيرتها المِصريّة، وأوفدت وفدًا سياسيًّا إلى القاهرة يَضُم مُساعدين لوزير الخارجيّة تمهيدًا لاستِئناف العُلاقات الدبلوماسيّة بين البلدين بعد عداءٍ استمرّ سبعة أعوام على أرضيّة دعم تركيا للمُعارضة المِصريّة المُمثّلة في حركة الإخوان المسلمين، وخفّفت تركيا انتِقاداتها للسعوديّة، ودورها في جريمة اغتِيال الصحافي جمال خاشقحي عندما عبّر إبراهيم كالن، مُستشار الرئيس أردوغان، عن احتِرام بلاده للقضاء السعوديّ والأحكام التي أصدرها في حقّ المُتّهمين بتنفيذ عمليّة الاغتِيال هذه ممّا يعني أنّها قرّرت إغلاق هذا المِلف كُلِّيًّا.
الحُكومة السعوديّة في المُقابل المُتورّطة في حرب استِنزافٍ دامية ومُكلفة في اليمن، بدأت تتخلّى عن سياساتها التّصادميّة مع مُعظم دول الجِوار، وخاصّةً دولة قطر التي زار أميرها الشيخ تميم بن حمد آل ثاني الرياض يوم الاثنين الماضي للمرّة الثّانية مُنذ توقيع اتّفاق المُصالحة في مدينة العُلا مطلع العام الحالي بدَعوةٍ من العاهل السعوديّ، كما وصل إلى الرياض أيضًا في الأُسبوع نفسه السيّد عمران خان، رئيس وزراء باكستان بدَعوةٍ مُماثلة، جاءت هذه الزّيارة بعد “بُرود” في العُلاقات، وتَلاسُنٍ سياسيّ وإعلاميّ على أرضيّة تقارب السعوديّة مع الهند، العدوّ التّقليديّ لباكستان.
ولعلّ المُفاجأة الكُبرى في هذه السّياسة الانفتاحيّة السعوديّة جاءت بعد الكشف عن قِيام وفد سعودي أمني بقِيادة الفريق خالد الحميدان، رئيس جهاز المُخابرات السعوديّة العامّة إلى دِمشق قبل أسبوع ولقائه الرئيس السوري بشار الأسد، واللواء علي المملوك نائبه لشُؤون الأمن القومي، وتسريب معلومات عن احتِمال إعادة فتح السّفارة السعوديّة في العاصمة السوريّة في الأسابيع المُقبلة.
مصادر دبلوماسيّة أكّدت أنّ التّنازل الأكبر لترطيب العُلاقات التركيّة السعوديّة جاء من الجانِب التركي الذي يُواجِه أزَمات اقتصاديّة طاحنة، خاصّةً أنّ الصّادرات التركيّة للأسواق السعوديّة انخفضت بنسبة 90 بالمِئة بسبب المُقاطعة السعوديّة “غير الرسميّة” للبضائع التركيّة، حسب ما جاء في تقريرٍ لوكالة “بلومبيرغ” الاقتصاديّة الدوليّة.
لم تَصدُر حتّى الآن أيّ مُؤشّرات إيجابيّة من الجانبين السّعودي أو التركي حول نتائج زيارة السيّد أوغلو للرّياض، خاصّةً حول رفع المُقاطعة للبضائع التركيّة، أو شِراء المملكة طائرات “بيرقدار” التركيّة المُسيّرة، وغيرها من المعدّات العسكريّة، ولا يَستبعِد مُراقبون أنّ التّوجّه السعوديّ لإعادة العُلاقات مع سورية تمهيدًا لاستِئنافها مع إيران بعد اللّقاءات بين الجانبين السعوديّ والإيرانيّ في بغداد الشّهر الماضي، هو الذي يَكمُن خلف الاستِقبال السّعودي “الفاتر” لوزير الخارجيّة التركيّ الزّائر.
انعِدام الثّقة المتبادل بين الجانبين، والتّنافس التّاريخي بينهما على “الزّعامة السنيّة” للعالم الإسلامي، وطُموحات الرئيس أردوغان في إحياء الخِلافة العثمانيّة بأُسلوبٍ حديث مُتطوّر، كلّها عوامل مُجتمعة أو مُتفرّقة تحول دُون طيّ صفَحات الخِلاف بشَكلٍ سريع، خاصّةً أنّ السّعوديين من الصّعب عليهم ألا ينسون للرئيس التركي دعمه القويّ لقطر في ذروة خِلافهم معها، وفتح قاعدة عسكريّة تركيّة قُرب الدّوحة، وإرسال 30 ألف جندي بمعدّاتهم للدّفاع عن الحُكم القطريّ في حال تعرّضه لأيّ مخاطر من جِيرانه.
من الصّعب علينا في هذه الصّحيفة “رأي اليوم” التّنبّؤ بتطوّرات العُلاقات بين الجانبين في المرحلة المُقبلة، سلبًا أو إيجابًا، وكُل ما يُمكن قوله أنّهما يُواجِهان أزَمات مُتَعَدِّدة لأخطاء ارتكبتها حُكومتا البلدين في السّنوات الخمس الماضية، وأبرزها التّلاسن الإعلامي، وإيواء تركيا لحركة الإخوان المُسلمين المُعادية للمِحور السّعودي الإماراتي المِصري البحريني، واغتِيال خاشقجي على الأراضي التركيّة.
الأمير محمد بن سلمان الحاكِم الفِعلي للسعوديّة كشَف في مُقابلته الأخيرة مع التلفزيون الرسمي عن توجّهاتٍ “عُروبيّة”، وفكّ الارتِباط كُلِّيًّا مع الحركة الوهابيّة التي وصفها بالمُتطرّفة، ولعلّه، وهو يُحاول الخُروج من أزمة حرب اليمن، سيَجِدان التّقارب أكثر مع سورية والعِراق وإيران قد يكون السُّلّم الأمثل لإخراجِه من هذه الحرب.. واللُه أعلم.