البدائي أم الإنسان المعاصر ؟
أينا أكثر وحشية و قسوة الإنسان البدائي أم الإنسان المعاصر ؟
أعود إلى هذا الموضوع الذي كثيرا ما فكرت فيه حين اختلف المتحدثون أمامي حوله منذ ايام ، و هكذا وجدتني من جديد أوجز مراجعي و إجتهادي الشخصي في هذه المقالة معترفا أنها غير كافية بالتأكيد ، ولكنها محرّضة على أن نفكر جيدا في هذه المسألة .
أهم ما لدي أنصار العصور الحديثة اتهامهم البدائيين أن بعض قبائلهم كانت تأكل لحوم البشر، وينصبون جماجمهم التي يقطعونها علامة على نزعة الفخر بعملية القتل نفسها إضافة إلى التزين حتى في أوقات السلم بالسيوف والرماح أو النبال مما يدل على نوع كريه من العادات و التقاليد القبلية لديهم في اللباس لدى المحاربين القدامى و كأن القسوة التي يوحي بها التزين بالجماحم كعلامة محببة لدى المجتمع القبلي نفسه….
إلا أن الأبحاث و الدراسات التي تناولت هذا الموضوع لصالح العصور البدائية أكثر و أغنى في دلالتها على أن البدائيين كانوا أفضل من حيث المستوى الأخلاقي بالرغم من الإتهامات الموجهة إليهم ذلك أنهم مثلا كانوا ينظرون إلى بكارة الفتاة نظرة إزدراء و أن رجال القبيلة كانوا يفضلون لزواجهم الفتاة التي فقدت عذريتها إذ كانت مرغوبة أكثر للذكور من الفتاة البكر على أنها مكروهة في قبيلتها من قبل الرجال. و هذه النظرة إلى البكارة كفضيلة في العصور الأكثر حداثة ليست دلالة على الطهارة من حيث منشؤها الأساسي إذ لم تكتسب البكارة قيمتها الأخلاقية لدى المحدثين إلا مع نشوء قانون الملكية الخاصة فالعفة الجنسية لم يعترف بها إلا حين جاءت كإمتداد للشعور بحق التملك للورثة و ليس لأسباب أخلاقية ، و الخيانة بصفة عامة لم تنشأ إلا مع ظهور المدن الكبرى إذ إزداد المجال الذي يتطلب دهاء السياسين إتساعا كما إزداد مع الحداثة تنوع الأشياء التي تغري الإنسان بالسرقة و بهذا المعنى يتحول الجشع إلى علم للإقتصاد ، و الإعتداء إلى مجرد خصام ، و الإغتيال إلى مقاضاة ، و الإنتحار إلى فلسفة . و بهذا المعنى لم يعد التقدم الأخلاقي في التاريخ متمثلا في تحسين التشريع الأخلاقي بمقدار ما هو متمثل في توسيع الدائرة التي تطبق فيها الأخلاق ، و هكذا يبدو بوضوح أن أخلاق الإنسان الحديث ليست بالضرورة أسمة من أخلاق البدائي بل أكاد أقول أسوأ بمواحل كثيرة، وهل أبلغ من إستخدام القنبلة الذرية مرتين في الحرب العالمية الثانية من قبل الأمريكيين ضد اليابان في هيروشيما و ناغازاكي المدينتين التي مات فيها مئات الألاف من الناس و أكثر منهم الذين تعرضوا للتشويه الجسدي و النفسي طوال ما تبقى من حياتهم البائسة .
نعم… لقد بات البشر عموما أكثر قسوة و جشعا و أنانية في العصور الحديثة ذلك لأن طبيعة التقدم المدني قد خلقت ظروفا وعادات لم يكن في الإمكان وجودها في العصور البدائية ، حتى العهر نفسه لم يكن له وجود لدى البدائيين في حين تحول العهر لدى المحدثين إلى مهنة معترف بها رسميا و إجتماعيا في كثير من المدن الأوربية
أليس هذا كافيا لأن نترحم على عصور البداءة بعد أن بات العنف سيد المواقف كلها في أية خصومة ، كما صارت الجريمة مهنة للقاتل المأجور في العصر الحديث …وقانا الله شرها …!.