البديري الحلاق، وقصة أبو التوت الحلاق!
في دمشق، تتعرف على واحدة من أجمل مدن الشرق، ليس لأنها قديمة يقولون، وليس لأن الغوطة تقع في جهتها الشرقية، ولا لأن النهر الذي يدخل إليها من جهة الربوة يتفرع فيها لسبعة أنهار صغيرة، ولا لأن الماء ينبع في كل بيت من خلال بحرة في وسط أرض الدار، ولا لأن الياسمين والكباد والعنب الزيني والبرتقال اليافاوي والليمون الحلو موجود في كل بيت.. بل لأن فيها أيضا تفاصيل ساحرة لأشياء يومية !
ففي كل مرحلة من مراحل تاريخها الحافل تقرأ عن شيء يختلف عنه في مرحلة أخرى، فإذا كان البديري الحلاق قد سجل يوميات دمشق في القرن الثامن عشر، من خلال زبائنه ومايسمع في السوق عن وقائع المدينة التي يعيش فيها وعن أحداثها، وترك أروع كتاب حي عن تاريخها، فإن أبو التوت الحلاق في القرن الماضي جعلني أعيد قراءة البديري لأنه، أي (أبو التوت) هو الذي طبّق المثل الغرائبي الذي يقول : بيكون عم يحلق بيصير يقلع ضراس!
فالحلاق أبو التوت ، كان يفتح دكانه في الشيخ محي الدين بعد حارة النواعير المعروفة في الصالحية، وكان رحمه الله (مسبّع الكارات) كما يقولون ، فهو يقلع أضراس الزبائن الذين يرتادونه بين زبون يحلق و آخر يغادر الدكان، إلى الدرجة التي صار فيها أبو التوت أشهر أطباء الأسنان الشعبيين في عصره ودواؤه الماء والملح وأداة خلع الضرس وهي خيط قوي وأحيانا كلاّب يعرف باسم (البانسة)!
ذهبت إلى دكان أبو التوت الحلاق قبل خمسين عاما، وكنا نقطن في الجسر الأبيض عند سفح جبل قاسيون، وكان شعري قد تساقط فجأة ، ولا أعرف سبب إصابتي هذه التي شكلت بقعة بيضاء في رأسي سقط شعرها تماما، وقال الجيران لأمي عليك بأبي التوت، فهذه اسمها (تعلبة)…
وذهبت إلى دكانه، كان مشغولا في حلاقة رأس أحد الزبائن، وكان يتحدث معه عن آخر خلطات زيت الشعر التي وصلته، فجلست . لم يكن يعرفني، فأنا لست من زبائنه، وعندما انتهى أشار لي أن أجلس على كرسي الحلاقة، فقلت له :
ــ لا أريد أن أحلق . شعري يتساقط هنا !
وأشرت إلى مكان البقعة البيضاء .
ضحك أبو التوت ، وقال:
ــ أنت من الصالحية؟ فأجبته : ــ من الجسر الأبيض .
سألني بعامية قريبة من الفصحى : آكل رعبة شي؟!
فقلت له : ــ لا ..
هزّ أبو التوت رأسه ، و طلب مني الصعود إلى الكرسي العالي الذي يجلس عليه الزبائن، ثم فرز الشعر حول البقعة، و جاء بقطعة قماش، وراح يحفّ جلدي في مكان تساقط الشعر، إلى أن شعرت بألم شديد واستنجدت به كي يوقف الحفّ، عندها مسح عليه بسائل موجود في زجاجة عتيقة وسخة، وقال لي:
ــ لا تغسل رأسك حتى الغد !
وبعد أسبوع نبت الشعر، كان في البداية زغبا أبيض، ثم ما لبث أن عاد إلى طبيعته، وذهبت البقعة البيضاء !