«البصَّاص» لمصطفى عبيد … رواية عن تاريخ العسس
يُستدعى التاريخ روائياً ليؤدي وظائف محددة من خلال طرائق سردية متعددة الأشكال، فهو مرة يقدم كموضوع، حين يعثر الكاتب على حكاية منسية أو يجد نقصاً في حوليات المؤرخين النازعين إلى تسجيل أيام الحكام والوجهاء فيرممه عبر صناعة سياق اجتماعي للوقائع والأحداث الجافة المختزلة، والتقاط شخصيات هامشية وتسليط الضوء عليها. ومرة يستدعي لإسقاطه على الحاضر، لا سيما أن تشابهت الوقائع والأحداث. ومرة يقدم للمضاهاة بين زمنين، ذلك الذي مضى ولن يعود، وهذا الذي نعيشه ونكابد فيه، ورابعة لإثبات أن ما نحيا فيه مرَّ به من سبقونا، لأن حياة البشر سلسلة متوالية من المعاناة، حتى وإن اختلفت الأسباب والأنواع والظروف.
ضمن الصنفين الثالث والرابع تأتي رواية «البصاص» للكاتب المصري مصطفى عبيد (دار رواق للنشر). والبصاص هو الشرطي أيام المماليك، وكان كبير البصاصين يترأس مجموعة من صغارهم تنتشر في الشوارع والحواري والأسواق والحوانيت والمساجد والزوايا والتكايا والحمامات وكل الأماكن التي يرتادها عموم الناس وصفوتهم على حد سواء، لينصتوا إلى ما يقال، وينقلوه إلى رئيسهم، فينقله بدوره إلى الحاكم، فيصير عارفاً بتوجهات الناس حياله، وأي تدابير قد تحاك ضده. كما كانوا يقومون ببث الشائعات بغية التشنيع على خصوم السلطة، أو الإعلاء من قدر الحاكم، وإضفاء طابع أسطوري على سماته وتصرفاته. تبنى الرواية على وثيقة «العسس» التي تعود إلى زمن محمد علي، وتركها والد البطل، الذي كان يعمل موظفاً في دار المحفوظات، وهو خبير في المخطوطات والوثائق، لتجعل من قضية التجسس أو العسس موضوعها الأساسي، كي تقول لنا باختصار إن السلطة في دولة لم تنتقل بعد إلى كامل المدنية والحداثة، تحرص على تتبع أخبار وتدابير خصومها، أو حتى من تتوقع أن يكونوا خصوماً لها في يوم من الأيام. تستوى في هذا سلطة كانت قائمة مع مطلع القرن التاسع عشر في مصر، وسلطة متواجدة الآن، وأخرى قد تقوم في قابل الأيام.
وهذه المضاهاة تدفع الكاتب إلى إيجاد تفاعل وتشاكل وتشابك بين هذين الزمنين، وربما هي التي جعلته ينحاز إلى أن يكون بطله «كرم البرديسي» باحثاً في التاريخ في جامعة القاهرة، يعد أطروحة دكتوراه عن نظام العسس أيام حكم محمد علي وما قبله، تمكنه من أن يقف على أساليب السلطة في الحط من قدر مناوئيها، بإطلاق إشاعات تجرح صورتهم، وطريقتها في ترفيع أنصارها وممالئيها حتى لو كانوا قليلي القيمة والقامة. ولا يقف انشغال البرديسي بالعسس عند أولئك الذين يجدهم يتحركون بين سطور الكتب القديمة، بل أيضاً من يتابعونه في الشارع، أو هكذا يتصورهم، مهجوساً بما يعرف ويرى، فيتصورهم يراقبونه أينما ذهب، وتشاركه هواجسه تلك فتاة يقع في غرامها، تهب حياتها للتصدي لدولة الخوف، لكنه لم يلبث هو أن تحول إلى بصاص جديد.
ويعيش بطل الرواية صراعاً نفسياً محتدماً، فهو يؤكد في الليل لصديقه أن كل الشخصيات التاريخية التي تُضرب بها الأمثال في الشجاعة والعدل والحكمة مثل صلاح الدين الأيوبي وأبو جعفر المنصور ومحمد علي باشا لم تكن في حقيقتها بهذه النصاعة، بل كانت لهم مساوئ ومثالب لا تحصى، تجعل ما يشاع عنهم الآن من إيجابيات محض أساطير.
أما في النهار، فيتعاون مع أمثالهم من المعاصرين، فيكتب التقارير الأمنية في زملائه وتلاميذه، لا سيما ممن ينتمون إلى التيار الديني السياسي، وكذلك صديق عمره الشيوعي، بل إنه يبلغ عن حبيبته، الصحافية، حين فكرت في أن توثق شهادات التعذيب في السجون وأقسام الشرطة، ثم يوشي بأستاذه، الذي يشرف على أطروحته، وهو رجل نزيه مخلص لوطنه، فيعرضه لضغوط شديدة، تصيبه بجلطة، تفقده الحركة والنطق، فتنقطع بذا صلته بتلاميذه.
وكرم هنا قد سار على خطى والده، الذي كان بصاصاً قديماً، سلم وثيقة العسس الأصلية إلى جهاز أمن الدولة مقابل تعيين ابنه معيداً في قسم التاريخ في كلية الآداب. وكأن الكاتب أراد أن يقول لنا إن مهنة العسس تنتقل من جيل إلى جيل، محافظة على آلياتها، ووظائفها.
وعلى رغم أن البطل يعمل بصَّاصاً فإنه يمضي خائفاً من البصاصين، ظاناً أن كل الناس مثله، وتقبض هذه الهواجس على نفسه، وتطارده كظله، فتتحول الرواية إلى كابوس طويل، وفصول متتالية من التعاسة، تصم الجميع، الأبطال على اختلاف أدوارهم، والراوي المتأرجح بين الماضي والحاضر، لنجد أنفسنا أمام عمل كفكاوي إلى حد ما، لا يقف عند حد اكتئاب فرد، مهما بلغت درجة وعيه وقدرته على التحايل والإفلات من المآزق، إنما تشمل الكآبة مجتمعاً بأسره، يعيش في خوف وتفسخ وفساد وصراع على الفتات، حتى في أشد مؤسساته تحديثاً، وهي الجامعة. ولعل العبارة التي جاءت على لسان أحد أبطال الرواية تلخص هذه الحالة بقسوة، إذ يتوجه إلى الناس ويدينهم فيقول بطريقة خطابية ظاهرة: «العلم خارج اهتمامكم أيها الشكاؤون بلا نهاية. يا شعوباً من كلام لِمَ تستخفون بجلسات البحث العلمي وتحتشدون أمام مباريات الكُرة وحفلات الرقص الشرقي؟ يا أناساً من ضجيج لِمَ تتجاهلون عواصف التفكير وتنشغلون بالسواك والجلابيب القصيرة وعذاب القبر وعلامات الساعة؟ يا بشراً ينام نصف العُمر وينافق أبد الدهر لِمَ تتغيبون عن حفل ميلاد قامة فكرية في سماء بلادكم؟». ولدى الكاتب قدرة ظاهرة على صناعة التشويق، لم ينل منه عمق الطرح، ولا الانتقال من زمن إلى زمن، ومن أسلوب إلى آخر، ولا تشابك خيوط الأحداث. ويجري كل هذا بلغة فياضة ومحكمة في آن، إذ لا نجد ترهلاً، إنما ذهاب إلى المعنى من أقرب طريق.
وعلى رغم أن الرواية تتوسل بالتاريخ، وتعود إليه لتنهل منه طيلة الوقت متكئة على مراجع ومصادر في مطلعها كتاب «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» لعبدالرحمن الجبرتي، فإنها تغرف أيضاً من الواقع المعيش، فأجواء التلصص والتتبع لا تخطئها عين، وكتبة التقارير عن بعضهم بعضاً أو حتى عن أنفسهم يتكاثرون كالأميبا، وطغيان الأمن على الحرية صار خطاباً سائداً منذ عقود، لا سيما مع العودة الدائمة إلى نظرية المؤامرة المسكون بها كتابات تاريخية عربية عدة.
ومع أن السياق السياسي حاضر بشدة إلا أن الكاتب تمكن إلى حد بعيد من أن ينأى بنصه عن المباشرة أو الوقوع في فخ الانحياز الأيديولوجي الفاضح والواضح، حتى أنه لا يأخذ موقف الإدانة لـ «البصاص» بقدر ما يعريه أمامنا، فنرى سوءاته كلها، وندرك فداحة ما ينالنا منه، من دون أن نفقد الأمل في إمكانية استعادته إلى السوَّية، لنربح «المجتمع السليم» وفق تعبير عالم النفس الأميركي إريك فروم، أو حتى الذي نطيق أن نعيش فيه.
صحيفة الحياة اللندنية