البقاء حياً
الواقع… رواية رديئة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قبل ثمان سنوات جلست في هذه الغرفة، وعلى هذه الطاولة في هذه المدينة الجميلة الهادئة “صلنفة” (سورية) متخذاً قراراً لا رجعة فيه، أن أكتب رواية خلال عشرين يوماً، لأتقدم بها إلى جائزة “دبي الثقافية” وقيمتها 15 ألف دولار.
الوقت المتبقي لي لإنجاز الرواية وطباعتها وإرسالها 23 يوماً. وهكذا جلست أمام أوراقي الفارغة، ورأسي المزدحم لأعرف كيف أبدأ.
لم يسبق لي أن حاولت كتابة رواية، ولدي فقط 5 دواوين شعر وكتاب نثرـ مقالات صحفية.
مضى يومان وأنا أمشي مسافات طويلة في الغابة، وأعود برأس مليء بالخيارات لبدايات مرتبكة. وكلما تعددت الخيارات صارت البداية أصعب. وأخيراً قررت الانسحاب من المباراة قبل أن تبدأ. فتركت نفسي منقسماً بين سعادة الخلاص من العبء، وبين هم الديون المتراكمة ولا سبيل إلى الوفاء بها، فأمضيت مساءً جميلاً حزيناً، راضياً وساخطاً، صائباً خائباً… وفي اليوم الثاني وفيما أستعد للرحيل إلى دمشق أردت أن أعرف أين هي المشكلة؟ فتبين لي أن المشكلة في تحديد نوع الرسالة ومضمونها…الرسالة التي ربما كان لها اسم أفضل: الفكرة، التي يخرج معها وبها القارىء من رواية، أو العبرة، أو…القول، أو أي تسمية ثقيلة العيار في تقنية الرواية.
واكتشفت أنني أضع للقلم مهمة اختراع العالم، أو القسم المضيء منه، أو مديح الخير وكراهية الشر، أو وضع الأشخاص في مأزق وإيجاد حلول لهم. أو التبشير بتحسن طفيف في أداء الرسل. أو تمجيد الإنجاز غير المكتمل لبشرية متعثرة…
واكتشفت، أن بوسعي الثرثرة الحرة، والحكي فقط ودون عناء، كما لو أنني أمام أذن تم استئجارها، حية ومصغية، لكي تبوح لها ما في نفسك من حرمان استماع متلذذ ونزيه ومزمن.
عدت إلى الطاولة، وبدأت بحكاية رجل أراد العودة إلى مسقط رأسه ليحفر قبراً لمسقط رأسه. آمراً حفاري القبور بأن يكون الحفربالعمق لميت يدفن واقفاً. وعندما استغربوا، قال لهم:
صديق شاعر غجري كتب قصيدة يقول فيها:
” ادفنوني واقفاً…
فلقد أمضيت حياتي كلها،
راكعاً على ركبتي”.
وهكذا سال حبر على الورق، بموازاة دم في الذاكرة. واشتعلت حرب، وانطفأت آمال. سافر أصدقائي في الرواية إلى غير عودة، ومات منهم من مات في المنفى، وانسجن العديدون وخرجوا من السجن. وهذه البلاد تزداد وحشة مع الأيام، وهؤلاء القابضون على حلم كي لا يفرّ إلى المجهول… يشيعون البهجة في لحظة الآلام لكي يتحمل الجميع هذه الورطة في مهنة عسيرة هي الحياة.
لم أكن أعرف أين أنا ذاهب في السرد، ولم أكن أعرف النهاية…كنت أكتب وحسب، وفي اليوم التاسع عشر كان علي أن أجد نهاية لهذه الثرثرة… فاخترعت حيلة من أسطورة تقول: ثمة قرد في الهند يدور على بيوت الكتاب، يغافلهم ويشرب زجاجات الحبر… ويخربط أنساقهم النصية.
وأنا أتيت ـ في الخيال ـ بهذا القرد وأنهيت الرواية…”جلس القرد على طرف الطاولة، أمسك زجاجة الحبر رفعها إلى فمه… وأنا تركته يشرب.
…………………..
هذا قبل ثمان سنوات…والآن أجلس بذاكرة مثقلة بالذي حدث في هذه المدينة وهذه البلاد، وأحاول أن أكتب مقالي الأسبوعي لهذا الموقع الذي أحبه. ولكن لا شيء سوى الحسرة على تلك الأيام، سوى الفراغ، فقررت أن أستعيد تلك اللحظات المرتبكة، المليئة بعدم اليقين، ولكنها التي تجلب، وهي تعبث بالتواريخ والأمكنة، نوعاً من السعادة: السعادة أنك حي، وما دام الأمر كذلك…سأفرش هذه الطاولة بأوراق…يمكن أن توضع في ذلك القبر الافتراضي الذي لم يستعمله، بعد، صاحبه. لأنه ما زال واقفاً خارجه!
فرشت الأوراق… منتظراً صاحبي القرد ” شرّيب الحبر”.