البوكر العربية .. هل ننتظر صدمة جديدة!؟

 

 ( 1 )

يجب إن نقرّ بأنه ما من جائزة ثقافية أو أدبية أو فنية في العالم لا تُنتقد بعض قراراتها سواء وقعت في أخطاء أم لم تقع، بما في ذلك جائزة نوبل للآداب، التي تذكرنا بفوز تشرشل وبوب ديلون مثلاً، بل حتى باسترناك، وجائزة الأوسكار التي فازت بها بعض أضعف الأفلام فنيا ًوجماهيرياً، مثل “الرجل الذئب” سنة 2010، ولم تفز بها أفلام عظيمة بكل المقاييس مثل “اثنا عشر رجلاً غاضباً” سنة 1957.

ومع هذا لا يمكن لأي مراقب أو صحفي أو ناقد إلا أن يرصد تخطّي جائزة البوكر العربية حدود المعقول في كثرة الانتقادات التي تتلقاها، وغالباً بسبب كثرة أخطائها ونوعية بعض هذه الأخطاء، مما يستعصي على الفهم، كما يستعصي معها فهم عدم معالجة مجلس أمناء الجائزة لها. وهي تكاد تتكرر في كل دورة، وقد توزعت على عدم معقولية العديد من الأعمال الفائزة أو الصاعدة إلى القائمتين الطويلة أو القصيرة، ووقوع التسريبات، وعدم توفر الإقناع في بعض المحكمين، وفي افتقاد واضح للنزاهة في بعض الدورات، ومخالفة الضوابط والمعايير وسياسات الجائزة ونُظمها، وانحياز بعض المحكمين الواضح إلى روائيين من أبناء جلداتهم، وغير ذلك كثير. فمن نماذج الأخطاء المرتكبة: ما صاحب الدورتين أو الثلاث 2008-2010 من لغط بسبب سوء إدارة المنسقة السابقة، وفوز روايتين مناصفةً في دورة 2011، وصعود أعمال إلى القائمة القصيرة لا ترقى حتى إلى ما دون ذلك في دورة 2014، وصعود عملين إلى القائمة القصيرة أحدهما يحتوي على ما يقارب 600 خطأً في دورة 2015، وصعود عمل لا يستحق حتى دخول المنافسة إلى القائمة القصيرة في دورة 2018، وصعود أعمال في دورات عدة هي أقرب إلى القصص القصيرة منها إلى الروايات، وصعود أعمال أخرى لا تجد فيها ما هو صحيح تعلقاً بالفن الروائي بناءً وتقنياتٍ وما إلى ذلك، وتسريب النتائج قبل الإعلان الرسمي لها وتكرار ذلك، وأخيراً فوز عمل لا يرقى أن يكون رواية بالجائزة في دورة 2019، وهي التي نتوقف عندها هنا.

حين أبين هنا طبيعة جائزة البوكر العربية، وبما يعني تبريراً لبعض سياقات عملها ولفوز بعض رواياتها، فإني لا أتراجع عن تشخيص أخطائها وأحياناً خطاياها، ولا أعفيها من مفاجآتها التي قد يصل بعضها إلى الفضائح النقدية والثقافية وتكررت أكثر مما يجب

( 2 )

انتقالاً إلى دور (البوكر العربية) السابقة، يمكن لمتابع حيثياتها ومجرياتها أن يلاحظ بسهولة التقاء ثلاث من كاتبات القائمة القصيرة الأربع، في مواقفهن وانفعالاتهن ومغادرتهن للحيادية وتبني ازدواجية المعايير في ذلك. فابتداءً بالروائية إنعام كجه جي، لا نظن بإمكان أحد أن يستسيغ موقفها الإيجابي شبه الثابت من الجائزة مدة عشر سنوات بالتمام وتحديداً حين اختيرتْ ثلاث روايات لها ضمن القوائم القصيرة لثلاث دورات منها بما فيها الدورة السابقة، ليتغير الموقف فجأةً حين لم تفز في الدورة ذاتها بالجائزة، بل لم تكتفِ بالموقف السلبي والرافض، فأطلقت على الجائزة في دورتها هذه بـ (عرس واوية). فهذا وصف للجائزة ينقلب عليها وما كنا نتمنى للصديقة العزيزة إنعام، وهي الروائية الكبيرة بحق، أن تنساق في عواطفها وانفعالاتها أبداً لتتخذ مثل هذا الموقف وتنشر ما نشرته عنها. والأمر ذاته، نعني ازدواجية المواقف والمعايير في التعامل مع الجائزة، ينسحب إلى حد كبير على الروائية كفى الزعبي، ولكن مع لغة أقل قسوة وحدّة من لغة كجه جي، وتحديداً حين تقول: “لقد رشحتْ دار الآداب روايتي لهذه الجائزة ولم أتوقع لها الفوز بسبب مواقفي التي قلت وكتبت أنني لن أتخلى عنها ولم أتخلّ عنها. وحدث أن شقت روايتي طريقها إلى القائمة القصيرة، بفضل مستواها الفني وقيمتها على مستوى الشكل والمضمون، لا بفضل أي عامل آخر، بحسب تقييم لجنة التحكيم التي علمت أنها ظلت حرة في اختياراتها، حتى لحظة تقرير الرواية الفائزة.” فهل هذا رأيٌ يمكن أن يقنع أحداً؟ أن تكون لجنة التقييم حرة ومهنية ما دامت تختار رواية الكاتبة، وتخرج عن حرية التقييم ومهنيتها حين لا تختار الرواية، ولماذ تراها تخلت عن ذلك حين لم تفز؟ أما ثالث الروائيات، هدى بركات، الفائزة بالجائزة، التي سنتوقف بعد قليل عندها وعند روايتها وطبيعة اختيارها روايةً فائزة بالجائزة، فهي قد التقت مع الكاتبتين الأخريين إلى حد كبير. فبعد غضبتها المعروفة على جائزة البوكر، وزعلها عليها ما دامت لم تُختر من قبل لقائمتَيْ الجائزة، تخلت عن ذلك الغضب بعد اختيار روايتها “بريد الليل” التي لا يمكن لناقد حصيف ومحايد وموضوعي أن يقول باستحقاقها للجائزة إلا إذا أرادت الجائزة مراضاتها، وهو ما يبدو أنه تم فعلاً.

لقد بررت اللجنة فوز بركات معتبرة “رواية (بريد الليل) رواية حول بشر هاربين من مصائرهم، وقد أصبح الصمت والعزلة والكآبة والاضطراب كونهم الجديد، وهي رواية إنسانية ذكية الحبكة توازن بين جدة التكنيك وجمال الأسلوب وراهنية الموضوع الذي تعالجه”. وهو كلام عائم وغير مقنع، ولهذا وبسبب القناعة غير المعلنة بعدم استحقاق رواية بركات للجائزة، ولا للقائمة القصيرة، غلب على كتابة بعض المنحازين إليها من النقاد والصحفيين الحماس للكاتبة وليس للرواية، ببساطة لأن الروائية كبيرة فعلاً، لكن الرواية ليست كبيرة، وهو عينه الذي وقعت فيه لجنة الجائزة ومجلس أمنائها فارتكبوا خطيئة كبيرة حين طعنوا مصداقيتهم ومصداقية الجائزة التي تُمنح لرواية وليس لروائي.

بقي إذا ما ذهبتُ هذا المذهب في الموقف من رواية هدى بركات، فإنني قطعاً لا أتفق مع بعض القراء والمعلقين الذين انساقوا بالصدمة إلى التقليل من شأن الروائية. فمرة أخرى الروائية كبيرة وليس من غرابة أو عيب في أن تتقدم وتفوز، لكن ليس عن روايتها هذه، وهو ما يبرر عدم وصولها إلى القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد. وهذا ما يدفعني إلى القول كنت أتمنى لو تحلّت هدى بركات بشجاعة كافية لترفض الجائزة وتقول بأن روايتها لا تستحقها، ففي هذا كانت ستعزز كبرها. هنا قد يظن البعض أنني حين أقول ما أقوله فإني أريد أن أوصل رسالة بأن رواية العراقية إنعام كجه جي هي الأجدر بالفوز، فأقول بكل تأكيد إني لم أقصد هذا، ولكي لا يظن البعض أنني استهدف هدى بركات تحديداً، أقول بل أستهدف “بريد الليل”. فابتداءً ليس من المعقول فوز عمل روائي، لا يكاد طولاً يزيد على العشرين ألف كلمة إلا بقليل، أن يفوز بأرفع جائزة عربية للرواية. قد يقول من فوّزها إن الطول ليس مقياساً وحيداً، هذا صحيح ولكنه مقياس، على أية حال، ولا أظن من الممكن لعمل في العالم كله بهذا القصر أن يفوز بهكذا جائزة إنْ لم يكن من نوع (الماستر بيسس) وعلى شاكلة (موت في البندقية) لمان مثلاً، و(الشيخ والبحر) لهمنغوي، و(المسخ) لكافكا، و”الليالي البيضاء” لديستوفسكي، وشتان ما بين أي من تلك الأعمال وهذه الرواية، علماً بأن أصحاب تلك الروايات العظيمة لا يدّعون أبداً أنها روايات.

يضاف إلى ذلك أننا لا نجد من حبكة روائية حقيقية، هو بدلاً من ذلك  ينبني على اجتماع خمس شخصيات لا تتوفر له أي درجة من الإقناع، لا واقعي ولا تخيّلي، ولا لكونها جميعاً تكتب رسائل، ولا لكونها جميعاً مهاجرة ولا لكونها جميعاً تكتب رسائل لتغفل عنها أو تتركها عمداً أو خطأ وبشكل ساذج في أماكن غير عادية ليعثر بعضها وبشكل ساذج أيضاً على رسائل بعض، ولا في كتابتها الصريحة عن الجنس الإباحي، الذي يقترب بعضه من كتابات (البورنو)، خصوصاً حين تفعل بعض هذه الشخصيات ذلك لترسلها إلى من لا يمكن لأحد في الدنيا أن يكتبه إليه، كما سنأتي إلى ذلك بعد قليل. ولأن الموضوعية والعلمية تقتضيات التوقف عند هذه الرواية من جهة، ولأنني في الوقت نفسه لا أريد كتابة تحليل ونقد لها من جهة أخرى، فستكون وقفتي عندها قصيرة جداً، وتحديداً لنرى كيف افتقدت الإقناع في كل جوانبها الفنية والموضوعية تقريباً.

( 3 )

بريد الليل” لهدى بركات، الصادرة سنة 2018 عن دار الآداب ببيروت، 2018- رواية قصيرة في أكثر من عشرين ألف كلمة بقليل، وهي قائمة، بقسميها وخاتمتها، على خمس شخصيات تكتب خمس رسائل ربما يصح أن نصفها بالـ (تائهة) كما أصحابها:

الشخصية الأولى رجل في مدينة عربية خارج بلده، أرسلتْه أمه وهو في الثامنة وحيداً في قطار إلى عمه، وهو يكتب رسالته إلى امرأة. الشخصية الثانية امرأة تكتب رسالة إلى رجل كانت لها علاقة به وربما تكون الرسالة مناجاة له، وليست رسالة فعلاً، وتعثر هذه المرأة، في غرفة فندق تنزل فيه، على رسالة غير كاملة لشخص في سجن يكتبها إلى امرأة، وواضح أنها رسالة الشخصية السابقة. أما الشخصية الثالثة، فرجل مهاجر في مطار ببلد أجنبي يكتب إلى أمه رسالة، غير مؤكد أنها ستصلها، يذكر فيها كيف كانت وأبوه يضربانه، وهو يفكر وهو في المطار بالهرب كي لا يموت في السجن، ويحكي لها كيف قضى هرباً مدة مع امرأة من البلد الأجنبي مقابل إرضائها جنسياً. الشخصية الرابعة امرأة تنتظر طائرة متأخرة وهي تكتب رسالة إلى أخيها تخبره فيها كيف أنها تخاف تسليم رسالة، تعثر عليها، إلى الأمن خشية أن تُساءل عن سبب عدم تسليمها لهم من البداية، وواضح أنها رسالة الشخصية السابقة، وصاحبة الرسالة الحالية تحكي لأخيها كيف أن تزويج أمها لها فطلاقها، سبب ما هي عليه الآن حيث هاجرتْ إلى بلد ما لتعمل خادمة في البيوت، ثم لتعمل في النهاية مومساً. أما الشخصية الخامسة، فرجل مهاجر يكتب رسالة إلى أبيه، ليحكي له عن رسالة لامرأة وحدانية مستوحشة مثله يعثر عليها، وواضح أنها رسالة المرأة السابقة، ويكشف هذا الرجل عن أن أباه كان يعتبره خنثى، ونكتشف أنه فعلاً مثليّ وكان قد هرب من بلده إلى بلد أجنبي مع حبيب، وبسبب مرض حبيبه هذا فيما بعد يشتغل مومساً ليعيله.

والآن بماذا تتميز هذه النماذج البشرية؟ إنهم جميعاً معتلّون، مجرمون أو قتلة أو ساقطون أو منحرفون أو مرضى. وهم جميعاً مهاجرون، وتقدّمهم الروائية في أسوأ ما يمكن أن يكونه إنسان. وكلهم يكتبون رسائل، تضيع أو تُترك في مكان غير عادي ويعثر عليها آخرون، ولهذا سميناها رسائل تائهة. ومعظمهم يكتبونها لأقرباء لهم- أب أو أم أو أخ أو أخت – ومع هذا هم يكتبون ما لا يكاد يُكتب حتى إلى غريب، وتحديداً عن الجنس المكشوف، نقول هذا حتى لو افترضنا أن بعض هذه الكتابات قد لا تكون كتابات فعلاً بقدر ما هي سرود أو تداعيات أو مناجاة، وهي على أية حال ليست كذلك. وكل ذلك مما يُخرج الشخصيات، وهي تجتمع في عمل واحد، عن أن تكون مقنعة، شخصيات ليست من علاقة فيما بينها، وتكون بهذه الصفات، وتكتب رسائل تعترف فيها بكل شيء، وكلها تترك رسائلها في أماكن غير عادية؟ كيف اجتمعت، بشكل ما، مع بعضها البعض بكل هذه المشتركات فيما بينها؟ أمر يفتقد الإقناع من جميع النواحي. قد يقول البعض، ردّا على هذا، إنه عمل تخيلي نظلمه إذا ما حاججناه بالواقع، فنقول نحن لا نبحث الإقناع كما يتوفر على أرض الواقع، بل عن الإقناع الذي يوفّره منطق العمل، كما هو حال قصص وروايات الخيال العلمي مثلاً، التي نبحث فيها عن الإقناع مع أنها لا تكون في الغالب على علاقة بالواقع.

انتقالاً إلى جانب آخر لا يمكن إلا أن يثير جدلاً، وخلافاً، وهو الجنس. هنا تحضر في ذهني واقعة. ففي ملاحظة لي قلتها لمخرجة مسرحية بريطانية ضمن مناقشة عقدتْها في أعقاب عرض مسرحيتها، في جامعة أكستر سنة 2010، قلت لها: أنا لا اعترض على استخدام كلمة (فاك أو فاكنكغ)، ولكني اعترض على طريقة استخدامها بمناسبة وغير مناسبة وكأنها كلمة عبور (باس وورد) للمسرحية أو للنص الذي تأتي فيه إلى القارئ. وهذا عندي ما فعلتْه وتفعله بعض الكاتبات العربيات للمرور إلى القارئ والناقد واللجان، ونحن نعرف هوس بعض العرب بالمرأة والجنس والخوف منهما في الوقت نفسه الأمر الذي يفقده كل توازناته، إنساناً عادياً كان أم كاتباً أم ناقداً، حين يتعامل معهما. أنا لست ضد الجنس بالطبع، ولكن ضد توظيفه لتحقيق الشيوع والترشيح والفوز بالجوائز وما إلى ذلك، مما ينطبق بشكل واضح جداً على اختيار لجنة جائزة البوكر السابقة لرواية “بريد الليل”. فأنا شخصياً أهتمّ بكُتّاب عُرفوا بالخوض فيه وكتبتُ شخصياً عنهم، مثل دي إتش لورنس وألبرتو مورافيا والطيب صالح وفؤاد التكرلي، وإلى حد ما أحلام مستغانمي وآخرين. ولكن الجنس عند كل هؤلاء لا يأتي مقحماً أو إباحياً أو في غير مكانه أو بدون حاجة فكرية أو موضوعية أو رمزية أو فنية، لكنه حضر بهذا الشكل الأخير مع جل شخصيات رواية “بريد الليل”، فلم يكن مقنعاً بأي درجة من الدرجات. فلا أظنه مقنعاً لأحد، سواء أكان إنساناً عادياً أو ناقداً أو شيخاً أو رجلاً أم امرأة أو جاهلاً او مبدعاً، ما يرد من تعبيرات وألفاظ ووصف في رواية هدى بركات، وهي تأتي في رسائل أب وأم وأخ وأخت. فإحدى الشخصيات، رجل يكتب لأمه: “كانت ليلة رهيبة، اغتصبتْني فيها تلك المرأة اغتصاباً صريحاً وهمجياً (…) ارتمتْ عليّ، وراحت تقول إنها تشتهيني جداً، (…) تقول وتحكي وهي تفكّ أزراري وتنزع ثيابي الداخلية بالقوة لتأخذ عضوي في فمها وبين يديها.” (ص65). وشخصية أخرى، امرأة تكتب لأخيها: “كان التعاطي مع الرجال الزبائن أسهل من مضاجعة زوجي. (…) شَرطي الوحيد كان ألاّ يأخذوني من الخلف، كما كان يفعل ذلك الجحش معي بالقوة حتى يُدميني” (ص78). وشخصية ثالثة، رجل يكتب  لأبيه عن كونه مثلياً وعمله مومساً: “لم أشعر بالعار من عملي مومساً.” (ص90).

( 4 )

في العودة إلى جائزة البوكر مروراً أولاً بالجوائز بشكل عام، لا شك أن الجوائز الثقافية والأدبية العربية تدعم الإبداع من أوجه عدة، ولكن لم يكن لأوجه الدعم أن تتحقق، أو على الأقل بعضها إذا لم تكن الجوائز، بالمؤسسات التي تطلقها، وسياسياتها ومعاييرها، ومسؤوليها وإداراتها، وهيئات تحكيمها، سليمة وعلمية وموضوعية، والأهم تلتزم بسياستها الصحيحة وبمعاييرها وحياديتها وموضوعيتها، وهو ما لا يتحقق في العديد من الجوائز، على الأقل في بعض دوراتها وأحكامها. ويجب أن نقر بأن بعض ذلك يأتي من خلال أخطاء وليست سياسات وممارسات مقصودة، ولكن هذه الأخطاء، وتحديداً حين تكون كبيرة، تضر حين تصدر عن سوء فهم لأمر ما، طبيعة الجائزة أو التعليمات الخاصة بها أو المعايير المفترضة أو غير ذلك، التي يرتكبها طرف ما، المسؤول أو الإدارة أو لجنة التحكيم.

يحضرني من ذلك قيام إحدى الجوائز بإطلاق قائمة طويلة تضم عدداً من الأعمال أقل من المقرر وفق سياسة الجائزة وسياقاتها، وهم لا يدركون أن القائمة الطويلة يجب أن تضم كامل العدد ببساطة لأن القائمة الطويلة تضم أفضل الأعمال المشاركة وليس بالضرورة أن تكون متميزة. ومن ذلك أيضاً استعجال إدارة جائزة ثانية الإعلان عن القائزين لنكتشف بعد ذلك أن العمل الفائز مسروق، واعتماد جائرة  ثالثة لنظام تحكيم ومعايير لا تقود إلا نادراً إلى فوز المتميز وهو ما يعلل عدم فوز أي عمل متميز وأي كاتب معروف بأي دورة من دوراتها، ومع هذا لا تقوم الجائزة بتعديل نظام تحكيمها.

وهكذا لا يكون غريباً أن ترتكب جائزة البوكر العربية، سواء من خلال مسؤوليها أو مجلس أمنائها أو حتى موظفيها، أو لجان تحكيمها، أخطاءً كثيراً ما تكون كبيرة لتثير، في أوساط الإعلام والثقافة والأدب والأكاديمية والقراءة، ضجات وإحباطات وصدمات، تؤكد كثرتُها أنها أخطاء فعلاً، وكما مثّلنا لذلك. ومع كل هذا، وحرصاً على الموضوعية، يجب أن نقول إن بعض ما يبدو أخطاءً من البوكر، ما هو بأخطاء، بل يُعتقد أنه كذلك بسبب عدم فهم جائزة البوكر العربية وعدم معرفة الكثيرين لطبيعتها وسياستها ومعاييرها وكما لغالبية الجوائز. وهو ما قاد الكثيرين خطأً إلى استهجان استدعاء لجنة التحكيم لرواية هدى بركات “بريد الليل” في الدورة السابقة، وهم لا يعرفون أن هذا أمرٌ متاح للجنة التحكيم في كل عام، وهو ضمن نُظم الجائزة، وهو أمر صحيح يتيح فرصة لرواية أو روايات لم يُتح لها فرصة أن يرشحها ناشر. كما قاد آخرين إلى عدم فهم وجود من هم ليسوا نقادَ رواية ضمن بعض لجان التحكيم، وتساؤل آخرين عن المعايير المتبعة في تحكيم الروايات، وهكذا بالنسبة لقضايا أخرى. ومن هنا سنتوقف قليلاً عند طبيعة هذه الجائزة، لا دفاعاً عنها بل توضيحاً لبعض ما لا يعرفه الكثيرون، ولا يكلف آخرون أنفسهم محاولة معرفته، قبل توجيه النقد للجائزة.

( 5 )

البوكر بالأصل جائزة أدبية بريطانية عالمية تُمنح لأفضل عمل روائي مكتوب بالإنكليزية، ولكنْ تفرّعت عنها جوائز منها (الجائزة العالمية للرواية العربية). والترشيح للجائزة يتم، لا من الروائيين ولا من النقاد ولا من الأكاديميين ولا من المؤسسات، بل من الناشرين حصراً وهدفها الرئيس الترويج للرواية. في النتيجة، لا تُختار الروايات المرشحة للجائزة بالضرورة بوصفها الأفضل، ويتمّ اختيار أفضل (16) رواية من هذه الروايات المرشحة، وبما يعني أن بعضها قد يكون متميزاً وبعضها آخر لا يكون كذلك، ومنها يتم اختيار الروايات التي تستحق، وفق رأي لجنة التحكيم، الفوز بالجائزة وهي (6) لتكون القائمة القصيرة. ولأن واحدة فقط من هذه الروايات الست المستحقة جميعاً للفوز هي التي تفوز يتم اختيار أفضلها، بالإجماع أو بالإكثرية.

ولأن الهدف من الجائزة هو تشجيع الكتابة الروائية ودعم الكتّاب والأهم الترويج للرواية وزيادة مبيعاتها، كان ضرورياً أن تستجيب لذائقة القرّاء مما يعني أنْ لا تكون المعايير النقدية هي فقط المعتمدة، مع ضرورة حضورها بالطبع. ووفقاً لطبيعة الجائزة وأهدافها هذه، يقوم مجلس أمناء الجائزة بتشكيل لجان تحكيمها من تشكيلة منوّعة من المثقفين، نقاداً وأكاديميين وفنانين وصحفيين ومكتبيين بل حتى قراءً مثقفين، ومن خلفيات وأعمار مختلفة ليكونوا الأضمن تمثيلاً للقراء وللذائقة. لذا ليس غريباً أن نجد ضمن لجان تحكيم جائزة البوكر البريطانية نقاد رواية، ونقاد أدب آخرين، وروائيين، وكتّاباً، وفنانين، وناشرين، وسياسيين، وغيرهم. ووفقاً لذلك، ولكن ليس بعيداً عن طبيعة الفن الروائي ومقوماته الفنية، كان من الطبيعي أن يحضر، من معايير تحكيم، كل ما يتعلق بها: الموضوع والأفكار، وكيفية المعالجة، والرؤية والموقف، والإقناع والإيصال، والشخصيات ونموها وامتلاكها الحياة والإقناع، والحبكة والنسق البنائي، والبداية والنهاية، والتقنيات، والمكان والزمان وتوظيفهما، والأسلوب، ومناسبة اللغة مع السرد، والتكثيف والإيحاء، والحوار، والجدة والتجريب، وخرق المألوف، والسلامة اللغوية، والإمتاع.

وأخيراً، فإني حين أبين هنا طبيعة جائزة البوكر العربية، وبما يعني تبريراً لبعض سياقات عملها ولفوز بعض رواياتها، فإني لا أتراجع عن تشخيص أخطائها وأحياناً خطاياها، ولا أعفيها من مفاجآتها التي قد يصل بعضها إلى الفضائح النقدية والثقافية وتكررت أكثر مما يجب، دون أن نلمح سعياً من مجلس أمنائها لتفاديها بإصلاح مواطن الخلل. فهل ننتظر هذا العام مفاجأة سلبية جديدة؟ لننتظر الإعلان عن القائمة الطويلة ما يتلوها من قائمة قصيرة ورواية فائزة ونرى.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى