التاريخي والتثقيفي في “الميثولوجيا ورحلة العقل نحو اللاهوت”
نادرا ما نجد في الكتابات الأكاديميّة موازنة بين الاختصاص والبساطة في الطّرح. غالبا ما يجنح شقّ على حساب الآخر. من أجل بلوغ المعنى الفكري والثقافي لأكثر من فئة وإيصال المدّ التوعوي لمختلف وجوه الذائقة العامّة يجب أن يكون الإشتغال وفق هذه الموازنة أو ما يمكن تسميته “كتابات نخبويّة للجميع” كهدف يجب أن يتحمّل الكاتب أو الباحث مهامه. هذا ما نجده مجسّدا عبر كتاب “الميثولوجيا ورحلة العقل نحو اللّاهوت” للباحث وللشاعر العراقي أحمد مانع الركابي، الصادر سنة ٢٠٢٠ في طبعة أولى عن دار منشورات أحمد المالكي العراقيّة.
أثار المؤلف موضوعا متداولا، إهتمّ به عدد من الباحثين والمؤلفين وصدرت في شأنه عديد الكتب. لكن المائز في وجهة نظر الكاتب هو نوعية الكتابة؛ التي ذهبت في سياق تثقيفي، يمسّ أكثر من فئة جماهيريّة، وعبر نحت أكاديميّ يؤسّس للمعنى بعيدا عن الصلابة والأدلجة. في الكتاب تنويع للحجج والمعارف – شرقيّة وغربيّة – بصورة فنيّة أكاديميّة متقنة.
الكتاب عبارة عن دراسة “في الأديان والأساطير“، قام الباحث بتبويبها عبر سبعة فصول كالآتي:
_ مفهوم الميثولوجيا والأسطورة واللاهوت.
_ نبذة مختصرة عن تاريخ الأرض وعصور ما قبل التأريخ.
_ مدخل إلى الحضارة السومريّة وثقافتها ومعتقداتها الدينيّة وما أنتجته من معرفة.
_ بين الأساطير السومريّة والتوراة وفلسفتها في خلق الكون والإنسان والآلهة وموقع الإنسان في جغرافيا تلك الخليقة.
_ نظرة وتحليل في الديانة السومريّة والمعتقدات السائدة في المجتمع اليومي.
_ أمثلة على مظاهر التوحيد التي كانت محيطة بجغرافيا الحضارة السومريّة والبابليّة.
_ التاريخ الحفري والشخصيّات القصصيّة في القرآن الكريم.
عبر مراحل الكتاب يتبيّن القارىء مدى الدعوة الصريحة إلى التفكّر وتنويع زوايا النظر بعيدا عن الصبغة التوظيفيّة للمؤلّف.
كما ذكرت في البدء، فإنّ الباحث تعاطى مع موضوع اُلّفت فيه كتب كثيرة. لكن من خلال مطالعة هذا المنجز نلاحظ مدى اشتغال البحث على الجانب العلمي، بعيدا عن الإسقاطات البيئيّة والنفسيّة والثقافيّة، التي تكون في الغالب هي المهيمنة على هذه النوعية من البحوث. المؤلّف لا يدّعي الحقيقة بقدر ما يدعو للتفكّر والتجرّد من البعد المسبق. يقيم إشتغاله في أتون البحث عبر مقاربة فينومينولوجيّة؛ والتي لا تستند في تناولها لأفكار مسبقة، بقدر ما تستند إلى المنطق العقلي في البرهان على ما يطرحه من فكر عبر موضوع المادّة.
جعل المؤلّف من الوعي المحور الأساسي الذي تدور حولهُ مادة الكتاب. فنجد جاذبية الطرح وقوة العقل في تناول كلّ موضوع، والمنهجية العلميّة في تسلسل الأفكار وحداثتها.
مادّة هذا الكتاب تشبه الرواية التي تقودك فصولها نحو أحداث مترابطة وشيّقة رسمها الكاتب بحرفية، فالكتاب يجعلكَ أمام مشاهد؛ أوّلها مشهد الخليقة، حيث النشأة الأولى للحياة، ووجود الإنسان في صفحات تلك النشأة وهو يصارع ويكافح من أجل البقاء، مسخّرا الطبيعة لصنع أدواته البسيطة.
الكاتبُ لا يستند على الخيال وإنّما يستند على الحقائق الأركيولوجيّة للتاريخ الحفري والنظريات العلميّة الحديثة. وهو ملمّ بحقائق التاريخ، والنظريات العلميّة، وثقافات الشعوب القديمة، والفلسفة. هذا ما جعل مادّة الكتاب غنيّة ومتنوّعة تصبّ جميع روافدها في خدمة رسمِ ملامح الصورة الحقيقيّة للوعي الإنساني ورحلته من نقطة البداية، مرورا بالتصوّرات الأوّلية والأساطير، وما أنتجته من معتقدات دينيّة، بشكل تصاعدي وصولا لمرحلة الوعي التي بها تهيّأ الإنسان لتلقّي الرسالات السماويّة. فمن يطّلع على هذا الكتاب يرى رصانة الأسلوب في قراءة الفكر الإنساني، وأهمّ محطاته على منحنيات التصاعد الفكري. ابتداءً بالحضارة السومريّة؛ كونها تمثّل المهد الأوّل لانطلاقة البواعث الأولى للفكر، الذي أوجد الحَرفَ مؤرخا لبداية التاريخ الانساني واستمرار حركته لعصرنا الحالي.
يتنقل المؤلّف بين الحقب لينتقي منها الشواهد التاريخيّة، التي هي بمثابة المرآة التي يرى من خلالها القارئ ملامح الفكر وتحوّلاته وحركته بين الحضارات، بحيث يشاهد القارئ اللاهوت البابلي، واللاهوت الكنعاني، ويقف على حقائق جمع التوراة وما تسلّل لها من أساطير، منتقلا إلى الديانة المسيحية والزرادشتية والمصرية والإسلامية، لا عن طريق الاستفاضة بل عن طريق الانتقاء المدروس والمتسلسل في تناول الموضوعات المترابطة.
فالحضارة السومرية كما برهن الكاتب كانت منبع الفكر الذي اغترفت منه الحضارات أساطيرها ومعتقداتها، وأثّرت في الفكر الإنساني وحركته نحو الارتقاء. الكاتب يعرض المشهد الثقافي والأدبي والسياسي لتلك الحضارة وبعض حضارات العالم. مما يجعل القارئ في نزهة فكرية بين الحضارات، ومعتقداتها وتصوّراتها.
كما أنّ الباحث نجح في توظيف النظريات العلميّة الحديثة متجاوزا علم الفيزياء التقليدي نحو “ميكانيكا الكم” وما فتحته من أبواب تستفزّ العقول في فهمها التقليدي للحقائق وتجعلها أمام أعتاب مشهد آخر لفهم الوجود، وآليته وطبيعة التصوّرات التي هي صور للحقيقة وجوهرها ضمن مدارات أخرى.
الكتابُ عبارة عن رحلة علميّة وتاريخيّة ودينية وأدبية، لا تتقاطع غاياتها، وإنّما تسير بشكل متوازٍ لتصل بالقارئ إلى مفاهيم تلتقي جميعها بهدف واحد، وهو أن الإنسان خلقَ من أجل أن يتكامل بالمعرفة التي تقودهُ لغايات نبيلة جسدتها الرسالات السماوية،
الكاتب قدّم قراءة تتناسب مع العقل الحداثوي لفهم النصوص الدينيّة وفق منطق عقلي لا يتقاطع مع الحقيقة التي حرص أن يتجرّد لها.