التحديات القادمة والأدوار الإقليمية (عامر راشد)
عامر راشد
بدخول الأزمة السورية عامها الثالث، تجتهد دوائر صنع القرار ومراكز البحث الاستراتيجي والنخب الفكرية والسياسية في قراءة الأدوار المستقبلية للقوى الدولية والإقليمية الكبرى، انطلاقاً من السيناريوهات المحتملة لتطور الأزمة السورية.
ومن بين تلك القراءات تشخص القراءة الإسرائيلية برسم وتقليب سيناريوهات مؤداها تفكك سورية ودول المشرق العربي، والاستعداد لهذا.
من المفهوم أن مجمل القراءات الدولية والإقليمية للأزمة السورية تضعها في إطار نطاق أشمل من أزمة داخلية، يتصل بمعادلات موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط، لما تتمتع به سورية من مكانة جيوسياسية، وعلاقاتها مع جوارها الإقليمي التي كانت لعقود طويلة من المحددات الرئيسية لطبيعة البنية الشرق أوسطية والصراعات والتحالفات في المنطقة.
ولذلك كانت سورية وستبقى حاضرة دوماً وبقوة في "قوس قزح" الحسابات الإستراتيجية الدولية والإقليمية، إلا أن القراءات والحسابات الإسرائيلية تظهر وكأنها تدور حول سيناريو تفكك سورية ودول المشرق العربي، كمدخل لبيئة إستراتيجية شرق أوسطية جديدة تستطيع إسرائيل أن تكون اللاعب الأبرز والرابح فيها بامتلاكها لأوراق كانت تعوزها في الماضي. ومن الأفضل التعاطي مع تلك القراءات والحسابات على لسان مسؤولين وباحثين ومحللين استراتيجيين إسرائيليين أنفسهم.
رئيس أركان الجيش الإسرائيلي بيني غانتس خص الأزمة السورية وتداعياتها بالجزء الأكبر من كلمته في مؤتمر هرتسيليا المنعقد في تل أبيب، المؤتمر السنوي للأمن القومي الإسرائيلي، ومما جاء في كلمته: "احتمال الحرب في المدى المنظور منخفض، ولكن خطر التدهور عال جداً. في كل أسبوع يوجد حدث من شأنه أن ينتهي بشكل مختلف وأن يجر المنطقة إلى الاشتعال..".
وأضاف غانتس: "الوضع في سورية أصبح عديم الاستقرار وخطير بشكل غير عادي. صحيح أن احتمال الحرب النظامية مع السوريين منخفض، ولكن منظمات الإرهاب التي تقاتل ضد الأسد كفيلة بأن ترى فينا التحدي القادم. قدرات إستراتيجية هائلة توجد لدى الجيش السوري يمكن أن تتدحرج إلى منظمات الإرهاب".
وربط غانتس الوضع في سورية بالوضع اللبناني والعلاقات الداخلية اللبنانية، معتبراً أن ارتدادات الأزمة السورية على لبنان بمثابة "مفجر استراتيجي من شأنه أن ينفجر في كل وقت". ووجه تحذيراً شديد اللهجة لـ"حزب الله" والدولة اللبنانية بالقول: "السنوات السبع الأخيرة كانت هادئة ويسرنا أن يبقى الوضع هكذا. وإلا فسنعرف كيف نعمل بشكل جد ناجع سواء تجاه حزب الله أم تجاه الدولة التي لها مسؤولية على هذه الأرض..".
وقد توحي أقوال غانتس بأن من مصلحة إسرائيل عدم انفلات الأزمة السورية خارج نطاق السيطرة، إلا أن القراءات البحثية الإستراتيجية الإسرائيلية تفيد على العكس من هذا. ففي قراءة له حول الأزمة السورية يعتقد اللواء احتياط ورئيس مؤتمر هرتسيليا داني روتشيلد أن "الأزمة السورية ومضي سورية نحو التفكك يثبت المكانة الإستراتيجية لإسرائيل في منطقة الشرق الأوسط، ويقوي من مناعتها الأمنية، وبالمقابل يوجه ضربة قاصمة لإيران".
ويدرج الباحث زلمان شوفال، صحيفة "إسرائيل اليوم" 11/3/2013، تركيا في قائمة الخاسرين الكبار من الأزمة السورية، والذين ستربح إسرائيل على حسابهم. ويعلل ذلك قائلاً: "رغم أن تركيا تدعي الوقوف على رأس الهلال الإسلامي السني فإن هدفها الحقيقي هو إنشاء إطار جغرافي سياسي وأيديولوجي بإلهام منها وبقيادتها، يشتمل على أكثر البلدان والشعوب التي كانت تنتمي في الماضي إلى الدولة العثمانية، وهو هدف كان يقوم في مركز سياستها التي هي صفر مشكلات مع الجارات، (ما عدا إسرائيل بالطبع)، وقد فشلت هذه السياسة إلى الآن..".
ويعتقد شوفال بأن الدور التركي، وبصرف النظر عن موقع تركيا في الاستراتيجيات الأميركية الشرق أوسطية، لن يكون ذا فعالية مؤثرة مستقبلاً سوى بعودة حكومة أردوغان إلى المثلث الاستراتيجي السابق (الولايات المتحدة- تركيا- إسرائيل)، ويستنتج من سياق ما قاله الباحث الإسرائيلي أن العودة ستكلف أنقرة تقديم تنازلات لتل أبيب وليس العكس؟!.
بينما تقدِّم البرفسورة عوفرة بنجو، الباحثة في مركز ديان في جامعة تل أبيب، وزميلها د. عوديد عيران، الباحث في مركز بحوث الأمن القومي- جامعة تل أبيب، قراءة أكثر عمقاً يركزان فيها على الدور المستقبلي للأكراد في خارطة المنطقة، لكنهما ينطلقان كباقي الباحثين الإسرائيليين من افتراض احتمال تفكك سورية ودول المشرق العربي لاحقاً.
ففي دراسة نشرت في صحيفة "هآرتس" بتاريخ 28/2/2013 يؤكد الباحثان أن الهزة التي تعصف بالشرق الأوسط في أعقاب "الربيع العربي" أحدثت "تغييرات جغرافية – سياسية بعيدة الأثر في المنطقة. فمن جهة، أدت هذه إلى بعض التردي في الميزان الاستراتيجي لإسرائيل، وعمقت هشاشة الاتفاقات التي وقعت مع مصر، الفلسطينيين والأردن. ومن جهة أخرى، فتحت أمامها فرصا جديدة، هي تحصيل حاصل لضعف الدول القومية والانهيار المحتمل لإحدى الوحدات السياسية المصطنعة التي صممت بعد الحرب العالمية الأولى".
ويضيفان: "أحد الأمثلة البارزة على الدولة القومية في سياق الانهيار هي العراق. فمنذ قيامه لم ينجح العراق في بلورة هوية قومية عراقية عامة، تجسر الهوة بين القومية العربية والقومية الكردية التي تطلعت إلى تقرير المصير. وبدأت التطلعات الكردية تتحقق مع قيام إقليم كردستان، بعد حرب الخليج في 1991، الخطوة التي تسارعت في أعقاب الاجتياح الأميركي للعراق في 2003 والانسحاب منه في 2011. وخلق ضعف الحكم المركزي في بغداد وآثار الربيع العربي وضعاً توجد فيه اليوم دولة كردية بحكم الأمر الواقع، تؤدي مهامها بشكل مستقل في ظل دفع ضريبة لفظية لوحدة العراق الإقليمية. لقد فهم الأكراد بأن الإعلان عن إقامة دولة سيجعلهم فقط يصطدمون بدول مجاورة، وسيمس بتطلعاتهم على المدى البعيد. ولهذا فقد امتنعوا عن مثل هذه الخطوة الرسمية".
وفي تدقيق للقراءة السابقة على ضوء الأزمة السورية، يرى الباحثان أنه "في باقي الدول الثلاث التي يتواجد فيها الأكراد أيضاً، والذين يبلغ عددهم معا أكثر من 30 مليون نسمة، يحدث اليوم "ربيع كردي" موازٍ لـ "الربيع العربي". فالأحداث في سورية استغلت من الأكراد الذين يسكنون في شمالي الدولة لإقامة حكم ذاتي في منطقتهم الكردية. هذا الحكم الذاتي يعزز علاقاته مع الحكم الذاتي في كردستان العراقية، ويخلق معها تواصلاً إقليمياً أيضاً. وأدت هذه الخطوات بالتوازي إلى تشديد ضغوط الأكراد الأتراك لإقامة حكم ذاتي كردي في تركيا، وكذا الأكراد في إيران لا يصمتون. ويحث الربيع الكردي سياقات التحول الديمقراطي بسرعة أكبر مما في الأنظمة الجديدة في المنطقة التي تعتمد على الإسلام السياسي. وتغير هذه التطورات الخريطة الجغرافية السياسية كما عرفناها حتى الآن والسؤال المركزي هو كيف ينبغي لإسرائيل أن تستعد حيالها؟".
ويجيب الباحثان على السؤال بطرح أسئلة أخرى متشعبة ينبغي على إسرائيل أن تنظر فيها: "هل يوجد مجال لمحاولة إقامة علاقات مع القوة الصاعدة في المنطقة، أي الأكراد؟ هل الأكراد أنفسهم معنيون بمثل هذه العلاقة؟ أي تأثير كفيل بأن يكون للعلاقات مع الأكراد على علاقات إسرائيل- تركيا؟".
ويخلصان إلى أنه "يجدر بإسرائيل أن تتبنى سياسة نشطة ترى في الكيان الكردي في شمال العراق وفرعه في سورية حليفاً. وتبني مثل هذه السياسة معناه المساعدة الإنسانية، الاقتصادية والسياسية. وبالنسبة للأكراد في تركيا، لا ينبغي لإسرائيل أن تظهر كمن ينبش في الشؤون الداخلية لتركيا، ومن جهة أخرى عليها أن تبلور موقفا أخلاقياً بالنسبة للموضوع الكردي. كما أنه لا مانع لأن تحثَّ إسرائيل العلاقات مع الأكراد في إيران، الذين يوجدون في مواجهة مع النظام الإسلامي. وستكون للمساعدة الإسرائيلية في مرحلة مبكرة كهذه، حتما، أهمية في المدى البعيد، وكل ذلك بالطبع على فرض أنه يوجد اهتمام كردي لمثل هذه المساعدة. في نظرنا يعد هذا جهدا إسرائيلياً جديراً".
وإذا كنا لا نزكي هذه الخلاصة، لمعرفتنا بخصوصية العلاقات التاريخية الأخوية بين الكرد والعرب، ولا نزكي القراءات الإسرائيلية التي تنطلق من أن تفكك سورية وبلدان المشرق العربي بات من المسلَّمات، إلا أنه لا يجب إهمال تلك القراءات التي توجه دفة استراتيجيات لاعب إقليمي مهم وحليف استراتيجي أول وأقرب للولايات المتحدة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط.