«الترامبية» تشرق على الغرب: عالم من دون أخلاق وأوروبا على الدور!
كان هذا آتياً، أمكن في أوروبا رؤيته ينمو ويكبر في المجتمعات الغربية، لذا لا حاجة لإبداء الدهشة أو إظهار المفاجأة. الساسة الأوروبيون مرعوبون، يكابرون بإظهار التماسك، فالمعرفة لا تلغي العاطفة وخيباتها. لهذا لا ينفع للفهم الانطلاق من النتيجة، برغم إبهارها الأكيد، فبضعة أعشار مئوية كانت لتصنع من الرابح خاسرا. سواء فاز ترامب أم كلينتون، ما كان ذلك ليغيّر حقيقة أن المجتمع بات خصباً لإثمار «الترامبية»، كما حذرت مراكز أبحاث غربية تحرس بدراستها معبد النظام الديموقراطي الغربي.
خلال شهر أيلول الماضي نشر باحثان غربيان دراسة تجعل من يقرأها يفرك عينيه. ليست استنتاجات أو استقراءات، بل خلاصة مسح دوري واسع للرأي العام في أوروبا وأميركا، متواصل منذ عقود، يسمونه «استبيان القيم الديموقراطية».
الدراسة نشرتها «جورنال الديموقراطية»، وهي دورية فصلية مرموقة، تشرف عليها نخبة من الباحثين المعروفين. جرس الإنذار الذي قرعته يتحدث عن سرطان أصيب به النظام الديموقراطي الغربي، لن يكون سهلا أبدا الشفاء منه.
بعدما حلل الباحثان روبرتو ستيفان فو وياشا مونك قوائم البيانات الإحصائية، خلصا للقول إن عدم الرضى المتنامي إزاء الحكومات الغربية له أسباب غير تلك التي تظهر على السطح: «فسّر معظم العلماء ذلك باعتباره مرتبطا بعدم الرضى تجاه حكومات معينة وليس تجاه النظام السياسي ككل. اعتمادا على بيانات الرأي العام الأخيرة نرى أن هذا التفسير المتفائل لم يعد مقبولا بعد الآن»، ليلفتا إلى أنه «عبر عيّنة واسعة من دول أميركا الشمالية وأوروبا الغربية يظهر أن مواطني هذه الديموقراطيات الناضجة باتوا على نحوٍ ملحوظ غير راضين عن طريقة حكمهم، ومنفتحين على نحوٍ مدهش على البدائل غير الديموقراطية».
تلك الخلاصة تقود الباحثين للتحذير من أن الواقع يقول، إنْ «ظهر هناك انفصال خطير عن الديموقراطية، وإذا اتسع أكثر فربما يبدأ بتحدي استقرار الديموقراطيات». المسألة تظهر أكثر، لتكتمل المفاجأة، لدى الأجيال الجديدة التي تشكل الداعم الأكبر لـ «التطرف السياسي».
هذه الأجيال أكثر ميلاً، من الآباء والأجداد، لإعلان عدم تمسكها بقيم حرية التعبير وصولا إلى حكم صناديق الاقتراع.
تلك النزعات يدعمها أنهم «أقل أملاً أنهم مهما فعلوا فسيمكنهم التأثير في السياسة العامة»، بالتالي تجدهم الدراسة «أكثر استعدادا للتعبير عن دعمهم للبدائل الاستبدادية». بكلمات أخرى، أكثر مباشرة، توضح الدراسة أن تلك القاعدة الشعبية المتنامية لا تمانع بوصول زعماء لا يكترثون بالبرلمان أو بالانتخابات. أكثر من ذلك، لا يمانعون بأن يستولي الجيش على الحكم إذا كانت الحكومة عاجزة.
لا حاجة للقول إن هذه الأعراض في منتهى الخطورة على أنظمة الحكم. لكن برغم تشخيصها، لا يبدو يسيراً تحديد أسبابها الرئيسة. يقول الباحثان إنه يمكن القول إن الأجيال الجديدة، بعد نهاية الحرب الباردة، باتت «غير مبالية بالحكم» لكونها «لم تختبر ببساطة تهديدا حقيقيا لها». لكن هذا التعليل «المعقول والمتفائل» مع ذلك «لا ينسجم مع أن الدعم الصريح لأشكال نظام الحكم الاستبدادي هو أيضا في ازدياد».
ماذا يعني ذلك؟ تحاول الإجابة عن السؤال ورقة بحثية أخرى، صدرت عن مكتب بروكسل لمؤسسة «جيرمان مارشا فاند»، الأميركية، التي تُعنى بالعلاقات العابرة للأطلسي. تقول كورينا هورسن وروزا بيلفور في ورقتهما المشتركة، إن أعراض الانفصال عن الديموقراطية للأجيال الأوروبية الجديدة يمكن ردّه إلى «ثورة تكنولوجيا المعلومات، وأنها تحوّل مجتمعاتنا ومؤسساتنا بطرق لا نفهمها حتى الآن، الى ما يشبه موجة التغيير التي جلبتها الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر».
ثورة التكنولوجيا، ثم نتائج غير مواتية من هذا الطراز الصادم. يمكن ترك الرصانة الأكاديمية قليلا، ومحاولة فهم ما الذي يمكن أن يعنيه ذلك حقا؟ التهليل لزعماء عنصريين، بذيئين، يعدون بتحويل بلادهم إلى مجتمع أقلّ انفتاحا على الآخر، لا يعجبهم الأجانب ويحمّلونهم تبعات تصل حدّ الوصم بالجريمة والإرهاب. هذا يحصل، برغم «ثورة المعرفة»، بعدما صار ممكناً تحصيلها بمنتهى السهولة مع وسائل التواصل الاجتماعي الناتجة من ثورة التقنية.
الدراسة توضح أن ذلك ليس فقط معقولاً، بل هو ما يجري. يعني، أن ثورة المعرفة وازديادها، لم يجعلا الناس أكثر أو أفضل أخلاقا. عالم أكثر معرفة لا يعني عالما أفضل، لا يعني عالما أكثر حياءً ورحمة وما شابه. حينما يعرف العالم أكثر، يسهل فيه التبادل والتعارف، يمكن جدا أن يصير عالما أكثر ميلا للانعزال ومقتاً للآخرين المختلفين. يمكنه أن يكون عالماً ليس مختلفا لكنه أكثر انكشافا، يعتدّ بالتخلي عن الأخلاق تحت عنوان المصلحة. يحتفل بذلك حتى. هذا ليس خطيرا على الغرب، بل على العالم كله. حرب عالمية أولى وثانية ما كانت ممكنة لولا شعبية مدافعين ظلاميين عن المصلحة والهوية القومية. الأزمة تعني في الصميم النظام الديموقراطي الغربي، لأن الجمهور الأكثر معرفة ذهب الى هذه الخيارات أمام واقع سياسي لا أمل في التأثير فيه.
الرعب الذي أصاب أوروبا بعد فوز ترامب يؤكد أنها تتحسّب للآتي الأعظم عندها. صارت الظاهرة تحمل «ماركة الترامبية» لكون السوق الأميركية تبقى الأشهر عالميا، لكنّ عند أوروبا نسخاً متقدمة ولا تقل تطرفاً أبدا. قادة اليمين المتطرف أقاموا احتفالات، بعدما تلقوا هديّة من السماء، فيما يتجهزون لمعارك انتخابية حاسمة العام المقبل، في هولندا وفرنسا وألمانيا وغيرها.
مقابل صيحات الابتهاج، جاءت ردود فعل بعيارات قلق متنوعة. بعضها رأى الأمر باتساعه. زعيم «الحزب الديموقراطي الاشتراكي» الالماني زيغمار غابريال، الشريك في الحكم، اعتبر أن «ترامب أيضا هو تحذير لنا… إنه رائد أممية جدية، شوفينية واستبدادية». بعض الناقدين لنظام الحكم في الغرب ذهبوا في اتجاه مشابه. الاكاديمي اليوناني المعروف يانيس فاروفاكيس، وزير المالية السابق، اعتبر أن «فوز ترامب هو نهاية لعصر»، محذرا من أن المدّ يهدد أنظمة فرنسا والنمسا وهولندا وألمانيا.
المسؤولون الاوروبيون كانوا حذرين جدا، حتى في إرسال التهنئة لرجل رأى العالم كله أخلاقَه وقيمه. أسباب القلق كانت حاضرة في وعود ترامب الانتخابية لأوروبا، ما جعلها تستعيد تلك الهواجس: الخوف من تخلي أميركا عن حماية أوروبا عسكرياً، عن تحملها القسط الأكبر من تكاليف «الحلف الأطلسي»، عن تهاونها مع روسيا المتاخمة لأوروبا طموحاً وجغرافيا، مع الخوف الأكبر من إعطاء شرعية دافعة لزعماء اليمين المتطرف تترجم بمزيد من الشعبية والقبول السياسي والاجتماعي.
حينما صوّبت الدراسات السابقة على النظام الغربي، كان الملام نظام الحكم السياسي. آخرون يقولون إن العلّة في مكان آخر تماما، محمّلين المسؤولية لنظام الاقتصاد الرأسمالي. الآن بدأت أصوات غربية، على أعلى المستويات، تقترب من ذلك بالقول إن المسؤولية يتحملها نظام عولمة الاقتصاد والتجارة بما تركه من اختلالات وفجوات وطنية. حينما كان المخرج الأميركي مايكل مور ينهي فيلمه التسجيلي عن «الرأسمالية»، قال إن الفظاعات التي ولّدها هذا النظام جعلته متأكدا من أنه أمام مرض عضال، «لأن الرأسمالية هي شيطان، ولا يمكن ضبط الشيطان بالقواعد».
لا بالقواعد ولا بغيرها كما أظهرت انتخابات أميركا. من حذروا من أزمة أخلاق، عدم مبالاة بشخصية من يختارونه ليحكم حتى لو كان مستبدا، لهم في ترامب مثال ممتاز أيضا، حينما وعد بقبول نتائج التصويت الديموقراطي «لكن فقط إذا ربحت». مشهد فظيع تكرر بعدما تحقق ما يريد. لكن ما دخل لبنان بالقصة؟ يأتي الصوت من شاشة «سي إن إن» وسط الملحمة الأميركية: «لبنان يتصل!». كان مجرد إعلان تجاري، جاء في الوقت المناسب.
صحيفة السفير اللبنانية