التصوير مهنة الكآبة
ما من فنان يتحمل الواقع- نيتشه
____________________________________
تعلقت بمهنة التصوير عندما أصبحت أتقن الطباعة بالأسود والأبيض في مختبر صغير رتبته في مطبخ بيتي. صورت الكثير، واقتنيت كاميرات متنوعة وعدسات وكل لوازم هذا الفن. وبعد سنوات من الممارسة، وآلاف الصور التي تركتها في علب يروضها مرور الزمن. وبعد سلسلة من المشاهد والآلام والحروب والفقر والمجازر وانعدام الضمير (وهو العصي على التصوير) غادرت هذه الهواية ووزعت أدواتي وبعت بعضها، وتركت الصور في أكداس يضع الماضي بها حزناً مخيفاً.
وبعد مرور أربعين سنة، صعدت إلى السقيفة لأجد آلة الطباعة ما تزال ملفوفة بأوراق امتلأت غباراً. وعندما جلست لأكتب، فكرت بالإجابة على سؤال: لماذا توقفت عن التصوير؟ ليس فقط التصوير الفني أو الصحفي، وإنما حتى عن التقاط الصور التذكارية لأماكن وأشخاص ومناظر وحفلات شخصية. ورأيت الجواب في رسالة المصور الجنوب أفريقي “كيفن كارتر” وبطبيعة الحال لا أرشح نفسي للانتحار مثله. على الرغم من الكوارث التي تكاد تزاحمنا في الفراش لنعطس أرواحنا من مناخير الحياة الجنائية التي نعيشها كل يوم في هذا العالم.
لا أرشح نفسي… ببساطة لأن نوع اكتئابنا نحن، كما يبدو، غير قاتل. والسبب أن عتبة تحمّلنا ظلت ترتفع، تدريجياً من كارثة إلى أخرى، حتى أصبحنا لا مبالين. وهو أشد أنواع الاكتئابات خطورة: اللامبالاة .وما أظن مؤلف هذه الطرفة سوى مكتئب قال:
“الآن عرفت لماذا كانوا يضعون التحميلات ، ونحن صغار، في مؤخراتنا؟
كي نتدرب على خوازيق المستقبل”.
المصور “كيفن كارتر” حاز على جائزة “بوليتزر” للتصوير الفوتوغرافي عن صورة اشتهرت في العالم عام 1994 وهي صورة طفلة في جنوب السودان تحتضر من الجوع، ونسر، على بعد بضعة أمتار، ينتظر موتها.
ما بعد الصورة، دائماً، ثمة شيء مؤلم يحدث للمصور وللمشاهد. قال أحد المصورين “إن الجنس البشري ضلّ الطريق في هذا العالم”. وأحد المصورين وقع وزميلاه في كمين فنجا وماتا، ولم يعد يرغب في الاستيقاظ صباحاً من فرط الكآبة. والمصور الذي التقط بقايا قدمه المتدلية بعد انفجار لغم به، ليلتقط لها صورة وداع.
ودائماً هذه المهنة، في الكوارث والمجاعات والحروب، تظل تجذب إليها مصورين جدداً. قال الطبيب النفسي الذي يعالج الأعراض التي تظهر على مصوري الفظائع: ” لا فائدة من القول: ما الذي يدفع المصور للمخاطرة بحياته كي يرى حياة الآخرين وهي تزهق؟ فهناك صور تحتاج من يلتقطها، وهناك قصص بانتظار من يرويها”.
“كيفن كارتر”، وهو جنوب أفريقي أبيض، رأى صور العنصرية بتجسيداتها الفظيعة، مثلاً هو الوحيد الذي التقط صورة الرجل الذي أعدم حرقاً بالنار، على الطريقة الإنكليزية ، وهي عقوبة خاصة بالسود. وذلك لأن الرجل أقام علاقة مع زوجة شرطي أبيض… علاقة وليس اغتصاباً.
بعد ثلاثة أشهر من حصوله على الجائزة… ذهب في سيارته إلى ضفة نهر في جوهانسبورغ… إلى المكان الذي كان يلعب فيه وهو طفل، مكان البراءة، وقام بإدخال عادم الدخان إلى السيارة المغلقة فمات اختناقاً بالدخان السام، تاركاً وراءه الرسالة التالية: “أنا آسف جداً جداً، لكن ألم الحياة يفوق متعتها بكثير، لدرجة أن المتعة أصبحت غير موجودة. أنا مكتئب، تطاردني ذكريات حية من عمليات القتل والجثث والألم والغضب. أنا ذاهب للانضمام إلى “كين” ـ (صديقه الأسود الذي قتلته السلطات العنصرية) ـ إن كنت محظوظاً لهذه الدرجة”.