التقارب السعودي ـ التركي: الخلفيات التاريخية والسياق الإقليمي
زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان السعودية الأسبوع الماضي لمدة يومين التقى خلالهما الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، في زيارة، هي الثالثة من نوعها للسعودية أثناء العام 2015. في الزيارة أعلن الطرفان عن قيام «مجلس تعاون استراتيجي» لتوسيع التعاون العسكري والاستثماري والاقتصادي بينهما، حسبما صرح وزير الخارجية السعودي عادل الجبير. وتشي زيارات أردوغان المتكررة إلى السعودية في السنة الأخيرة بتصاعد وتيرة التعاون والتنسيق بين البلدين في الملفات الإقليمية وبالأخص الأزمة السورية، بالرغم من اختلاف منظومة القيم التي يعلنها نظاما الحكم في كل من تركيا والسعودية. وكانت العلاقات الثنائية التركية – السعودية قد تدهورت في العامين 2013 و2014 بعد تنديد الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز بمساعدة أردوغان لجماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، إلا أن وصول الملك سلمان إلى العرش السعودي في مطلع العام 2015 بدَّل أولويات المملكة من «مكافحة الإرهاب» إلى تشكيل «تحالف سني كبير» يضم تركيا لمواجهة إيران وتحالفاتها الإقليمية (مصطفى اللباد: السفير جوهر التغيير المحتمل في السياسة الإقليمية السعودية 2/2/2015).
خلفية تاريخية
سيطرت الدولة العثمانية على الحجاز لمدة أربعة قرون، وأُطلق على السلطان العثماني لقب «خادم الحرمين الشريفين» كمصدر للشرعية، حتى عاد الملك السعودي الراحل فهد بن عبد العزيز واستخدمه لنفسه ومن بعده ملوك السعودية حتى اليوم. وتمرد السعوديون على الأتراك طيلة الفترة الواقعة من نهاية القرن الثامن عشر وحتى العام 1929، حيث اعترفت الجمهورية التركية بسيطرة آل سعود على نجد والحجاز. وخلال العمليات العسكرية العثمانية المتعاقبة ضد السعوديين، فقد أعدم العديد من القادة السعوديين في اسطنبول. وبالرغم من انضواء البلدين في التحالف الغربي، إلا أن العلاقات الثنائية بينهما لم تتطور بسبب اختلاف تركيبة ونظم الحكم والقيم السياسية التي يمثلها كلاهما (علمانية أتاتوركية في تركيا مقابل ملكية مطلقة في السعودية) ورواسب الماضي العالقة. وتبدل الأمر قليلاً في عصر تورغوت أوزال، حيث توجهت تركيا أكثر نحو الشرق الأوسط اقتصادياً، للإفادة من المزية الاقتصادية النسبية التي تملكها أنقره حيال الدول العربية، ولتأمين وارداتها من النفط. بعدها زار الرئيس التركي كنعان إفرين السعودية العام 1984، وفي العام 1985 زارها أيضاً رئيس الوزراء تورغوت أوزال، فاتحين الطريق أمام شركات الإعمار التركية للعمل في المملكة وسوقها الواعدة. وبعدهما، زار رئيس الوزراء سليمان ديميريل المملكة العام 1993 على خلفيات اقتصادية أيضاً. وتغيرت الديناميكيات التي تتحكم في العلاقات الثنائية التركية – السعودية بعد وصول «حزب العدالة والتنمية» إلى السلطة في تركيا العام 2002، بسبب التخفيف من الطابع العلماني – العسكري لنظام الحكم في تركيا ورغبة الحكومة الجديدة في التعاطي بفعالية أكثر مع قضايا الشرق الأوسط. من وقتها أرست السعودية سياساتها حيال تركيا على قاعدة الاستفادة من «ثقلها السني» في مواجهة غريمتها الإقليمية إيران، خصوصاً بعد احتلال العراق عام 2003. بالمقابل استمرت الرؤية التركية للسعودية باعتبارها شريكاً تجارياً مربحاً كأساس للعلاقات الثنائية، مع توسيعها سياسياً بهدف تمتين ذلك الأساس الاقتصادي المربح. على ذلك، تأسس «مجلس الأعمال التركي – السعودي» في عام احتلال العراق، و «صندوق الاستثمار التركي – السعودي» العام 2005، ثم تتوج التقارب بزيارة الملك السعودي الراحل إلى تركيا مرتين عامي 2006 و2007 بعد أربعين عاماً من زيارة الملك السعودي الراحل فيصل الخاطفة إلى تركيا العام 1966. تأرجح الأمل السعودي في اجتذاب تركيا لمعسكرها الإقليمي صعوداً وهبوطاً، بسبب التعاون الاقتصادي الكبير بين تركيا وإيران وعدم رغبة أنقره في القطع مع جارتها إيران لاعتبارات اقتصادية وسياسية واستراتيجية. لذلك لم يتحقق الرهان السعودي على تركيا في الفترة ما بين وصول «حزب العدالة والتنمية» إلى السلطة عام 2002 وحتى «الربيع العربي» عام 2011، بالرغم من التحسن المطرد في التبادل التجاري والاستثماري بين الرياض وأنقره. بمعنى آخر، استفادت تركيا اقتصادياً خلال تلك الفترة من السعودية بشكل يفوق المزايا السياسية التي حققتها الأخيرة من علاقتها مع تركيا.
تركيا والسعودية و «الربيع العربي»
استعجلت تركيا فرصتها في القيادة الإقليمية مع اندلاع «الربيع العربي»، فابتعدت قليلاً عن السعودية وانحازت إلى جماعة «الإخوان المسلمين» التي بدت حصاناً رابحاً في الموجة الأولى من ذلك الربيع في تونس ومصر وليبيا. من ناحيتها، دعمت السعودية جماعة «الإخوان المسلمين» مادياً ومعنوياً لعقود طويلة في مواجهة نظم الحكم الشمولية بغرض تعزيز شرعيتها الإسلامية؛ لكن الأمر اختلف مع وصول الجماعة إلى الحكم في تونس ومصر، لأن الشرعية ذاتها أصبحت محلاً للتنازع بين المملكة والجماعة. ومع بروز تحالف تركي ـ «إخواني» كان الأمر مقلقاً للسعودية، من بروز تحالف جديد يهمش أدوارها الإقليمية. ساعتها كان الافتراق في العلاقات بين الرياض وأنقره وتنديد الملك الراحل عبد الله بدعم أردوغان للجماعة وانحيازه الواضح للحكم المصري الجديد منذ تموز 2013. لكن الأمر عاد وتبدل بعد انتقال السلطة في السعودية إلى الملك سلمان، إذ تغيرت الأولويات السعودية من «مواجهة الإرهاب» إلى مواجهة ايران. كما أن اشتعال المواجهة الإقليمية بين السعودية وإيران على الأرض السورية جعل تركيا من جديد شريكاً مرغوباً للسعودية، بحيث تحاول المملكة ترميم العلاقات التركية – المصرية لتشكيل تحالف إقليمي كبير يضم تركيا، للاستفادة من إطلالة تركيا الجغرافية على كل من سوريا والعراق في تضييق الخناق على إيران وتحالفاتها الإقليمية.
التقارب التركي ـ السعودي وسياقه
تجبر التطورات الإقليمية كل من الرياض وأنقره على إعادة حساباتهما حيال بعضهما البعض، بحيث يخدم التقارب متسارع الوتيرة أهداف الطرفين التي تتقاطع في الملفين السوري والعراقي. من ناحيته، يأتي التقارب مع الرياض كدولة وازنة في المنطقة مواتياً لحسابات أردوغان، الذي يعاني من عزلة إقليمية متزايدة بعد فشل رهاناته على «الربيع العربي». كما أن المواجهة الروسية – التركية في سوريا وانتعاش الطموحات الكردية فيها، يثير المخاوف في أنقره من خروجها خاسرة من حلبة الصراع السورية. وبالإضافة إلى ذلك تحتاج تركيا إلى غطاء عربي لعملياتها العسكرية المحتملة في سوريا في مواجهة الأكراد على طول نهر الفرات، وهو ما يمكن للسعودية ودول الخليج العربية تأمينه. ولا تغيب عن حسابات أردوغان أن الإيداعات المالية السعودية قصيرة الآجل في المصارف التركية منذ الأزمة السعودية – التركية حول مصر وحتى الآن، تساهم إلى حد كبير في كبح التراجع في سعر العملة الوطنية التركية الليرة أمام العملات الأجنبية، وتعزز بالتالي الرصيد الشعبي لأردوغان داخل تركيا. علاوة على كل ذلك يحتاج الاقتصاد التركي إلى تأمين حصته في الأسواق السعودية والخليجية الواعدة، وهو ما يسهله التقارب مع الرياض. من جهتها، تعلم السعودية أن الوقت الحالي هو الأنسب لاستثمار ضائقة أردوغان الإقليمية ومواجهته مع روسيا عبر فرد الغطاء العربي لتدخله العسكري في سوريا ومد الدعم الاقتصادي للشركات التركية؛ بغية استقطاب تركيا إلى «تحالف سني كبير» يواجه إيران وبالأخص حليفها النظام السوري. وفي هذا الصدد تراهن السعودية على تليين موقف أنقره والقاهرة في إحداث تقارب بينهما، لأجل تسييد تناقض رئيسي في المنطقة يقوم على معادلة: إيران وتحالفاتها في مواجهة باقي دول المنطقة، وهو ما يجعل السعودية مرتاحة أكثر في مواجهتها الإيرانية. تعلم السعودية أيضاً أن تكرار سابقة الفترة بين عامي 2002-2010 والتي أخذ فيها أردوغان اقتصادياً أكثر مما أعطى السعودية سياسياً غير مرجحة الحدوث مرة أخرى، بسبب تغير الديناميكيات الإقليمية والضيق النسبي لهامش المناورة الأردوغانية على محور السعودية – إيران حالياً مقارنة بالفترة المذكورة.
الخلاصة
بالرغم من التباين بين أنماط الحكم في الرياض وأنقره، واختلاف نظرة الطرفين إلى مستقبل سوريا ما بعد بشار الأسد، والتنافس التاريخي بينهما على قيادة العالم الإسلامي السني، يبدو أن الإيقاع الإقليمي سيتحكم بصعود وهبوط العلاقات التركية – السعودية في المدى المنظور. ويعني تغليب الاعتبار الإقليمي في أساس التقارب السعودي ـ التركي الراهن على اعتبار الحوافز الاقتصادية ـ من دون أن ينحيها-، أن مواجهة إيران عبر الساحة السورية ستكون الترمومتر الذي يقيس حرارة العلاقات بين الرياض وأنقره حتى إشعار آخر.
صحيفة السفير اللبنانية