التقنية الرقمية تفتح آفاق «النشر الذاتي» للكتاب الانغماسي (أحمد مغربي)
أحمد مغربي
الأرجح أن النشر الإلكتروني يقف أمام مهمة تشبه إحدى تلك المهمات العشر الأسطورية التي طلب من البطل الإغريقي الخرافي هرقل أن ينجزها. لكنها ليست مهمة مستحيلة. استطراداً، يقود هذا للقول بأن صناعة النشر الإلكتروني ستصبح مساحة للتوظيفات المالية الضخمة وحدها، كي تستطيع مواجهة هذا التحدي المعاصر. وللوهلة الأولى، يبدو هذا الانطباع صحيحاً. وفي نظرة ثانية، يظهر شيء آخر، إذ تقدّم التقنية راهناً حلولاً تجعل من المستطاع على الكاتب -الفرد أن ينتج محتواه بالطريقة الانغماسية، عبر أدوات بسيطة ومباشرة لا تتطلّب درجة عالية من التمكن التقني. بقول آخر، تبدو صناعة النشر الإلكتروني وكأنها أمام مفترق طرق بين السير في توظيفات ضخمة لصناعة مواد تعطي تجربة انغماسية عالية باعتبارها الطريقة الصاعدة في «كتابة» المحتوى من ناحية، أو التفرّق بصورة إفرادية، بحيث يصبح الكاتب ناشراً انغماسياً أيضاً. لننتظر ولنر أي الطريقين ستسير فيه هذه الصناعة. ولعلها تجمع بين الاثنين أو تبتكر طريقة اخرى! قبل متابعة هذا النقاش، ثمة منعطف تجب الإشارة اليه في سياق إظهار الوقائع المتغيّرة في النشر الإلكتروني حاضراً، يتّصل بالتغيير في الكتابة بحد ذاتها.
القارئ هدفاً وليس القراءة
إذن، بدأت الملامح الأولى لهذا التغيّر العميق في الارتسام. ووفق ما نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال» أخيراً، تنجز دار «بنغوين» خمسين كتاباً انغماسياً مع نهاية العام الجاري، بزيادة الضعفين عن السنة الماضية، وتنافسها دار «سيمون أند شوستر» عبر ستين كتاباً انغماسياً. وربما يحتاج الأمر إلى نقاش شيء آخر، هو تغيير الكتابة بحد ذاتها. لنفكر في الرواية نموذجاً: هل يمكن الاستمرار في الكتابة بالطريقة التي سارت عليها في تاريخها كله، ولحد الآن؟ ربما ليس من المبكّر التفكير في هذا السؤال أيضاً. وبات التمكن من التقنية الإلكترونية أمراً أساسياً في التعليم الحديث، ما يعني أن أجيال الكُتّاب باتت مرشحة لأن تكتب بالوسائط المتعددة التي تستطيع أن تصنعها بنفسها.
لعله من الأجدى في اللحظة الحاضرة التفكير في مفهوم «النشر الإلكتروني» بحد ذاته. لنتمهل لحظة. حاضراً، يضم الوسيط الرقمي الشبكات الإلكترونية والرقمية كافة، وشبكات الاتصالات للخليوي والهواتف الذكية، والبث المرئي – المسموع المنقول فضائياً عبر الأقمار الاصطناعية. حاضراً، يمكن «النشر» عبر هذا الوسيط بواسطة المُدوّنات الإلكترونية ومواقع الشبكات الاجتماعية مثل «تويتر» و «فايسبوك»، ومواقع أشرطة الفيديو الرقمي مثل «يوتيوب». من المهم التشديد على هذا المتغيّر، لأنه يمثّل تغييراً في الأساس الذي يقف عليه مفهوم النشر الإلكتروني.
بعبارة ثقيلة، بات مفهوم النشر الإلكتروني يقف على بنية من الشبكات المتنوّعة المتّصلة بمنصّات متعددة، تتداول مواد متعدّدة الوسائط (أساسها المرئي – المسموع الرقمي)، ويجري التعامل معها عبر أجهزة ذكيّة لا تكف عن التكاثر والانتشار في يد الجمهور. ما سبق مجرد ومضة سريعة عن الأساس الذي يقف عليه مفهوم النشر الإلكتروني حاضراً. في المقابل، ثمة من لا يفقد الرغبة في استمراء النقاش في الفارق بين الإلكتروني والرقمي. من المستطاع المضيّ في هذا النقاش إلى حدود بعيدة. إلى أي مدى يجدي مثل هذا النقاش عند التفكير في مسألة النشر الإلكتروني في العقد الثاني من القرن 21؟ أبعد من هذا، فإن الصورة السابقة المتعددة والمتغيّرة، تتحكّم فيها أشياء تطاول أساس المحتوى نفسه. ليس كثيراً القول إن ثمة صعوداً مذهلاً للثقافة البصرية في هذا الأساس نفسه، وإن درجة اندماج الثقافة البصرية مع التقنية الرقمية تتجاوز المفهوم التقني الرائج، وهو «التلاقي الرقمي» Digital Convergence، لتفتح اندماج المحتوى مع الأدوات الرقمية الذكية، مثل «آي باد» و «غالاكسي نووت» و «كيندل» و «نووك» وغيرها. وكذلك الحال بالنسبة الى برامج الكومبيوتر التي سارت بعيداً من البرامج التقليدية في النشر الإلكتروني، لتلاقي تلك المستخدمة في الألعاب الإلكترونية والمُدوّنات والأفلام ومواد الميلتي ميديا، عبر الملمح الأبرز في هذه الصناعة حاضراً: التطبيقات Applications المُعدّة للأجهزة كافة.
من هُمّ النُجاة؟
في عددها عند مستهل ربيع 2012، تناولت مجلّة «وايرد» الأميركية العلمية، رواية «النُجاة» («سيرفايفورز» Survivors) للكاتبة الأميركية أماندا هارفرد. ولاحظت أن التطبيق الذي يقدّم هذه الرواية، وهي مخصصة للشباب والمراهقين، على الأدوات الذكيّة تضمّن عناصر تفاعلية كأشرطة الفيديو وتغريدات «تويتر». اعتبرت المجلة أنها قطرة أولى في سيل شرع في الانهمار، وربما اكتسح مفهوم الكتابة والنشر الرقميين معاً. يبدو كأنه أمر محتّم. وكما تحتّم على عالم الموسيقى التأقلم مع ظهور «آي تيونز»، وأن تفرض استوديوات هوليوود تقنية «فليكس» للأشرطة الشبكية للأفلام، يتحتّم على صناعة النشر أن تتأقلم مع القفزات المُدوّخة التي تحقّقها أجهزة اللوح الذكيّة، وتجعل منتجاتها مناسبة للمعطيات الجديدة في الوسيط الرقمي. وبات صنع تطبيق «أبليكايشن» Application رقمياً عن الكتاب، وليس مجرد وضعه في هيئة ملف إلكتروني (مثل «بي دي أف») أو حتى على منصة رقمية للكتب، كـ»كيندل»، هو الممارسة المعاصرة في النشر الإلكتروني. وفي عدد تالٍ، تابعت المجلة موضوع المتغيّر في النشر الإلكتروني المعاصر، مع لورينا جونز، المديرة التنفيذية لدار النشر الإلكترونية «كتب كرونيكل» chroniclebooks.com. وعبّرت جونز عن قناعتها بأن الانتشار السريع للأجهزة الذكية، والتكاثر الانفجاري للتطبيقات التي تعرض كتباً بأسعار متدنية، يوجبان على صناعة النشر الإلكتروني أن تعيد النظر في عملها جذرياً. وفي سياق متّصل، أظهر استطلاع على موقع «بيوانترنت.أورغ» pewinternet.org (المتخصّص بتتبع آثار الإنترنت على الحياة اليومية للفرد العادي في الولايات المتحدة)، أن خُمس الأميركيين قرأوا الكتب إلكترونياً في العام 2011. وأظهرت «رابطة الناشرين الأميركيين» أن العام 2010 شهد مبيع 110 ملايين كتاب إلكتروني. وبيع قرابة خمسين مليون «آي باد» وأجهزة «أندرويد» وأجهزة قراءة كتب إلكترونية، في العام 2011، وهو ضعف العدد بالمقارنة مع العام 2010. من غير المبالغة القول إن المهمة التي تواجهها دور النشر تتخطى ذلك التحدي الهائل الذي واجه صناعة الموسيقى بالنسبة الى الوسيط الرقمي. ففي حال الموسيقى، تمثّلت المسألة الرئيسية المطروحة على دور صناعة الموسيقى، في تحويل مواد الموسيقى الى ملفات رقمية.
الأرجح أن المهمة في النشر الإلكتروني أكثر تعقيداً، إذ يتوجّب على الناشر الدخول الى صناعة مواد الـ «ميلتي ميديا» Multi Media والوسائط التفاعلية Interactive media. ليس من كبير مجازفة في القول إن صناعة الكتب الإلكترونية وصلت الى حدود جديدة بات مُصطلحاً على تسميتها «الكتاب الانغماسي» Immersive Book، أو «الكتاب الإلكتروني المُعزّز» Enhanced eBook. إذن، أصبح صُنّاع الكتب مُطالبين بأن يكونوا مؤسسات للمواد المتعددة الوسائط، وأن ينخرطوا في صناعة أشرطة الفيديو وممرات الموسيقى والمُكوّنات التفاعلية، إضافة إلى صنع الكتاب نفسه. ويتوجب أيضاً صنع تطبيقات تتناسب مع الأجهزة الذكية التي باتت شديدة الانتشار، مثل «آي باد» و «آي فون» و «غالاكسي نوت Galaxy Note» و «كيندل فاير Kindle Fire» و «نووك Nook- بارنز أند نوبل» و «سيرفس» Surface- مايكروسوفت» و «درويد Droid- موتورولا» وغيرها.
صحيفة الحياة اللندنية