التنمية السياسيّة وإرهاصات نشأة المفهوم
اقترن الحديث عن التنمية بصفة عامّة بفترة ما بعد الحرب العالميّة الثانية، وما شهدته من حدثَيْن هامَّيْن كانا بمثابة السبب الرئيس وراء طرح هذا المفهوم؛ أوّلهما تصاعد حركات التحرّر الوطني لعددٍ كبير من الدّول التي سرعان ما أدركت أنّ هذا الاستقلال سيفقد مضمونه ما لم تتبنَّ تلك الدّول مجموعة من البرامج التنمويّة في المجالات كافّة، أمّا الحدث الثاني فتمثّل في انقسام العالَم إلى معسكرَيْن، أحدهما اشتراكي بزعامة الاتّحاد السوفياتي، والآخر رأسمالي بقيادة الولايات المتّحدة الأميركيّة.
مع تصارع المُعسكرَيْن على استقطاب أكبر عدد من الدّول النامية تحت رايتهما، أدركت تلك الدول حقيقة أوضاعها المتردّية، وكذلك حاجتها إلى المساعدة من قبل الدول التي سبقتها في التقدّم.
خلال تلك الفترة، انصبّ اهتمام الباحثين على تطوّر الدّول النامية أو دُول العالم الثالث – كما كان يُطلق عليها آنذاك – حيث ظهرت العديد من الدراسات، والأبحاث، والنظريات عن التنمية الاقتصادية. ومع إصرار القطبَيْن الأميركي والسوفياتي على تصدير نموذجهما السياسي إلى الدُّول النامية، ظهر مصطلح “التنمية السياسية” Political Development، وصار أحد فروع عِلم السياسة، ويرجع الفضل في ذلك إلى إسهامات مجموعة العلماء الأميركيّين الذين ضمّتهم “لجنة السياسات المُقارَنة” التابعة لمجلس بحوث العلوم الاجتماعية SSRC الأميركي برئاسة جبريل ألموند Gabriel Almond.
في البداية لم تتناول العلوم الاجتماعية التنمية السياسية بشكلٍ مباشر إنّما تمّت دراستها باعتبارها نتيجة طبيعية للنموّ الاجتماعي، والاقتصادي، وذلك استناداً إلى رؤية أساسية مفادها أنّ معالجة الأُسس الاجتماعية والاقتصادية للنظام السياسي قد تُسهِم في تطوّر أدائه السياسي.
تطوَّر الأمر بعد ذلك، وبدأت العلوم الاجتماعية في التركيز على الجانب السياسي، وأصبح النّظام السياسي نفسه هو محور اهتمام البحث بدلاً من التركيز على الجانبَيْن الاجتماعي والاقتصادي، وبدأ النَّظر إلى النّظام السياسي على أنّه كيان قابل للتطوّر، والتحوّل، والتكامل، شأنه في ذلك شأن النظام الاقتصادي. بصيغة أخرى، ثمّة وراء عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وما تشتمل عليه، عملية أخرى معقّدة هي التنمية السياسية التي تهدف إلى نقل النُّظم السياسية التقليدية إلى نُظم سياسية حديثة.
لم يتّفق الباحثون حول مدلول محدَّد لمصطلح التنمية السياسية، إلّا أنّ التفسيرات التي طُرحت بشأنه اتّفقت على أنّ الهدف الأساسي للتنمية السياسية هو “تخليص المجتمع المتخلّف سياسياً من أزماته كافة”، الأمر الذي أدّى بطبيعة الحال إلى اختلاف تلك التعريفات باختلاف رؤى الباحثين تجاه طبيعة الأزمات التي تواجهها تلك المجتمعات؛ فمنهم من ركَّز على بنية الأجهزة والهياكل السياسية وطبيعتها، ومكانتها، ودَورها في الدّولة، ومنهم من أكَّد على مبدأ المُشاركة الشعبية، ومدى قدرة النّظام على تعبئة الجماهير، ومنهم من تناولها على أساس مدى ارتباطها بالتنمية الاقتصادية، ومنهم من أولى اهتماماً لاستقرار النظام السياسي وشرعيّته داخل المجتمع.
وعن تعريفه للتنمية السياسية، قدَّم روبرت باكنهام R. Packenham تصنيفاً يتضمّن خمس مقاربات لدراسات التنمية السياسية هي:
المقاربة القانونية: ترى أن التنمية السياسية تتمثّل في الدستور الذي يوضِح ملامح الحماية المتساوية في ظلّ القانون، والانتخابات، والفصل بين السلطات.. إلخ.
المقاربة الاقتصادية: ترى أنّ التنمية السياسية تتمثّل في مستوى التنمية الاقتصادية الكافي لخدمة الحاجات المادّية للشعب.
المقاربة الإدارية: تنظر إلى التنمية السياسية على أنّها القدرة الإدارية على حفظ القانون، وأداء وظائف المخرجات الحكومية بطريقة رشيدة ومحايدة.
مقاربة النّظام الاجتماعي: ترى أنّ التنمية السياسية هي تسهيل المشاركة الشعبية في الحياة السياسية، وتخطّي الانشقاقات الإقليمية، واللّغوية، والقبلية، والطائفية، وغيرها.
مقاربة الثقافة السياسية: ترى أنّ التنمية السياسية تتمثّل في مجموعة من الخصائص الشخصية التي تمكِّن الأفراد من قبول الامتيازات، وتحمّل المسؤوليات النابعة من العملية السياسية الديمقراطية.
أمّا لوسيان باي Lucian Pye، فقد أكَّد على العلاقة الوثيقة بين كلٍّ من التنمية السياسية والتنمية الاقتصادية، حيث أشار إلى أنّ التنمية السياسية يمكن تحقيقها من خلال تحويل الاقتصاديات الراكدة إلى اقتصاديات تتّسم بالديناميكية، ومن ثمَّ تحقيق زيادة في متوسّط دخل الفرد، أي أنّ الغرض الأساسي من التنمية السياسية – وفقاً لهذا التعريف – هو تسهيل عملية النموّ الاقتصادي.
وتناول “باي” أيضاً التنمية السياسية من زوايا مختلفة، وقدَّم لها العديد من التعريفات مثل:
التنمية السياسية كنمط لسياسة المجتمعات الصناعية من خلال حكومة مسؤولة تتجنَّب التصرّفات السياسية الطائشة التي تهدِّد المصالح الحيوية للمجتمع مع تقييد سلطات الدولة وفهم السياسة على أنّها أداة لتحقيق الرفاهية وليست صراعاً على السلطة.
التنمية السياسية كتحديث سياسي يستهدف نقل الأفراد والمجتمع من التقليدية إلى الحداثة، الأمر الذي يَستلزِم نشْر ثقافة عالمية علمانية إلى جانب الثقافة الوطنية.
التنمية السياسية كتصميم للدولة القومية بمعنى صنع الأمّة / الدولة، وقبول شكل واحد من النّظام السياسي والممارسة السياسية من شأنه مواجهة الانقسام السياسي وتحقيق التكامل القومي.
التنمية السياسية كتنمية إدارية وقانونية أي خلق نظام قانوني وإداري تتحقّق من خلاله السيادة الكاملة للدولة ويصبح هذا النّظام أساساً لشرعيّتها واستقرارها.
التنمية السياسية كتعبئة ومشارَكة جماهيرية، حيث تتضمَّن دَور المواطنة ومعايير جديدة للولاء والانخراط.
التنمية السياسية كبناء للديمقراطية من خلال بناء المؤسّسات وتدعيم الممارسات الديمقراطية.
التنمية السياسية هي تدعيم قدرات النّظام السياسي.
التنمية السياسية هي أحد جوانب عمليّة التغيير الاجتماعي الشامل.
التنمية السياسية هي تحديث الثقافة السياسية للمجتمع.
بينما عرَّف “جيمس كولمان” James Coleman التنمية السياسية على أنّها إحراز النسق السياسي على نحو متواصل لقدرات سياسية عالية من الناحية الكيفية الأمر الذي يظهر في التأسيس الناجح لنماذج جديدة للتكامل والقدرة على احتواء التوتّرات والصراعات التي يحدثها الاختلاف المتزايد، وتوفير نماذج جديدة للمُشارَكة، وتوزيع الموارِد بدرجة كافية تستجيب للمطالب التي تولّدها مقتضيات المساواة، كما أشار إلى أنّ المجتمعات جميعها في مراحل مختلفة من التنمية السياسية ولم يصل أيٌّ منها إلى المرحلة النهائية بعد، وإحراز النسق بهذا الشكل يُعتبَر عاملاً حاسماً في حلّ مشكلتَيْ الهوية، والشرعية.
أمّا صمويل هنتنجتون Samuel Huntington فقد قدَّم تعريفاً للتنمية السياسية في إطار ما أُطلق عليه مؤشّرات الحداثة السياسية، والتي حصرها في ما يلي:
ترشيد السلطة: بمعنى أن تخضع ممارسة السلطة لأُسس رشيدة تحكمها، وتلك الأُسس لن تتحقَّق إلّا من خلال ترسيخ مبدأ سيادة القانون.
تمايز المؤسّسات والوظائف السياسية من خلال تطبيق مبدأ الفصل والتوازن بين السلطات الثلاث (التشريعية – التنفيذية – القضائية).
المشارَكة السياسية: وتتمثّل في تعاظم معدّلات مُشارَكة الجماهير في الحياة السياسية عموماً، سواء في ما يتعلّق باختيار الحكّام على المستويَيْن المحلّي والإقليمي، أو التأثير في عملية صنْع القرار السياسي.. إلخ. وفي سبيل ذلك يتعيّن على النخبة العمل على توفير قنوات شرعية يمكن من خلالها لهذه الجماهير المُشارَكة في الحياة السياسية.
قدَّم عددٌ من الباحثين العرب بعض التعريفات للتنمية السياسية، ومن أبرزها تعريف نبيل السمالوطي الذي عرَّف التنمية السياسية على أنّها “تنمية قدرات الجماهير على إدراك مشكلاتهم بوضوح، وقدرتهم على تعبئة الإمكانات المُتاحة لمواجهة تلك المشكلات بشكلٍ علمي وواقعي، هذا إلى جانب تمثيل الجماهير لقيَم الديمقراطية، وتحقيق المساواة السياسية بين أبناء المجتمع”، وحدَّد ستّة مؤشّرات أساسية للتنمية السياسية وهي:
تحقيق المساواة بين جميع المواطنين داخل المجتمع من دون أيّ تمييز.
مُشارَكة الجماهير في صنْع القرارات ديمقراطيّاً من خلال النُّظم البرلمانية والمؤسّسات الدستورية والقانونية.
عدم تركيز السلطات في يد هيئة واحدة والفصل بين السلطات مع إعطاء الجماهير الحقّ في متابعة أجهزة السلطة ومراقبتها من خلال المؤسّسات الشرعية.
قيام السلطة على أُسس عقلانية رشيدة، بحيث يكون تولّي مواقع القيادة مكفولاً للجميع بشروط موضوعية، وتكون ممارسة السلطة وفقاً لقواعد وأسس قانونية يحدّدها الدستور.
نموّ قدرات الجماهير على إدراك مشكلاتهم الحقيقية والتعامل معها تعاملاً رشيداً.
تحقّق الوحدة والتكامل السياسي بين أجزاء المجتمع من خلال كفاءة نُظم التنشئة السياسية، ووجود ولاء سياسي للسلطة المركزية.
أمّا السيّد الزيّات، فقد قدَّم تعريفاً إجرائيّاً للتنمية السياسية، حيث وصفها بأنّها “عملية سوسيوتاريخية، متعدّدة الأبعاد والزوايا، تستهدف تطوير أو استحداث نظام سياسي عصري، يستمدّ أصوله الفكرية من نسق إيديولوجي تقدّمي مُلائِم، يتّسق مع الواقع الاجتماعي والثقافي للمجتمع، ويشكِّل أساساً مناسباً لعملية التعبئة الاجتماعية، ويتألَّف بناء هذا النظام من مجموعة من المؤسّسات السياسية الرسمية والطوعية التي تتمايز عن بعضها بنائياً، وتتبادل التأثير في ما بينها جدلياً، وتتكامل مع بعضها وظيفياً، وتمثِّل في الوقت نفسه الغالبية العظمى من الجماهير وتعكس مصالحها، وتُهيّئ المناخ المُلائِم لمشاركتها في الحياة السياسية بشكل إيجابي وفعّال، يساعد على تعميق وترسيخ حقائق وإمكانات التكامل الاجتماعي والسياسي، وتُتيح الفرصة لتوفير أوضاع مؤاتية لتحقيق الاستقرار داخل المجتمع بوجه عامّ”.
في ضوء ذلك يمكن القول إنّ التنمية السياسية هي عملية تغيير شاملة في المجتمع تهدف إلى بناء النظام السياسي، وإجراء عمليّات التحديث عليه بالشكل الذي يجعله نظاماً ديمقراطياً قائماً على قيَم العدل، والولاء، والمساواة، والمواطنة، وقادراً على توفير مساحة كبيرة من المُشاركة في العملية السياسية عبر عدد من التكوينات الاجتماعية المختلفة.
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)