’’الثورة الديموغرافيّة‘‘ في إسرائيل و ’’مؤامرات التوطين”
خلال زيارته الأخيرة لبنان، برفقة رئيس البنك الدولي جيم يونغ كيم ورئيس البنك الإسلامي للتنمية أحمد محمد علي المدني، أكّد الأمين العام للأُمم المتّحدة بان كي مون ’’أنّ الأُمَم المتّحدة لا تسعى إلى توطين اللّاجئين السوريّين والفلسطينيّين في لبنان‘‘، مشدِّداً على ’’أنّ مساعدة اللّاجئين هي للبقاء والصمود مؤقّتاً، وليس لتوطينهم‘‘.
كان الأمين العام للأُمم المتّحدة يحاول طمْأنة اللبنانيّين مع ازدياد هواجسهم، بل مخاوفهم، من احتمالات توطين النازحين السوريّين الذين تجاوز عددهم الـ 1,5 مليون نازح، فضلاً عن نحو نصف مليون فلسطينيّ قطعوا أشواطاً في مسار التوطين الواقعي منذ عام النكسة 1948، أي طيلة 68 سنة، وذلك في ظلّ تطوّرات خطيرة تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وتقتضي تسويات سياسية وأمنية وديموغرافية، وربما تقسيمات جغرافيّة.
في هذا المجال، برز موقفٌ بريطانيّ لوفدٍ من المملكة المتّحدة زار لبنان في كانون الثاني (يناير) الماضي، قبيل مؤتمر لندن الخاصّ بدعم اللّاجئين السوريّين، وطَلب من حاكم مصرف لبنان لدى اجتماعه به ’’إقرار إجراءات تقود إلى توطين النازحين‘‘. لكنّ الحاكم رياض سلامة رفض ذلك بالمطلق، شارحاً للوفد خطورة مثل هذه الخطوة، ونقل عنه قوله للوفد ما معناه ’’أنتم تطلبون منّا أن نُطلِق النار على رؤوسنا، وقد تتسبّبون بحربٍ أهليّة عندنا‘‘.
سبقت ذلك محاولاتٌ عدّة لتوطين الفلسطينيّين، في محطّات زمنيّة مختلفة، أهمّها سنوات الحرب اللبنانية التي امتدّت من عام 1975 حتّى العام 1990، وشهدت اعتداءات إسرائيليّة متكرّرة، واجتياحاً كبيراً في العام 1982 عندما وصلت قوّاتها إلى العاصمه بيروت.
ويروي الأب يوسف مونّس في كتابه ’’إلياس سركيس كما عرفته‘‘ واقعة وصفها بأنّها كانت “ليلة مجنونة من القصف والقنابل المتساقطة على قصر الرئاسة، وكان سايروس فانس وزير خارجية أميركا (في عهد جيمي كارتر) قادماً ليقابل الرئيس سركيس في الصباح، وقد باح لي عندما اجتمعتُ به بقوله : هذا القصف لقتلي أو لكسر إرادتي ولتوقيع التوطين،.. يا بونا بدّن يقتلوني إذا ما بوقّع بُكرا مع فانس على توطين الفلسطينيّين في لبنان. وأنا لن أوقّع، أرجوك أن تحفظ هذا السرّ في قلبك لوقته، وتعرف لماذا يريدون أن يهدموا القصر الجمهوري على رأسي”.
وبعد مضيّ 36 سنة، ومع تفاقم أحداث سوريا وتطوّراتها الإقليمية والدولية، وفي ظلّ تعدّد المشروعات المطروحة للحلول السياسية والأمنية والديموغرافية وتنوّعها، وما تقتضيه من تقسيمات للمنطقة، تحاول إسرائيل استغلال وضع ملفّ النازحين السوريّين، مع ملفّ الفلسطينيّين، وطرح التوطين للتخلّص من مأزقها الكياني بأبعاده الديموغرافية والأمنية. ولم يستغرب اللبنانيون طرح الموضوع من قِبل وفد بريطاني، لأنّ التاريخ يشهد للدور الكبير الذي قامت به بريطانيا بإنشاء الكيان الإسرائيلي تنفيذاً لـ “وعد بلفور”.
قرار العودة 194
بمناسبة زيارة الأمين العام للأُمم المتّحدة لبنان، شهدت المخيّمات الفلسطينية تحرّكات جماهيرية واعتصامات أمام مبنى “الإسكوا” تُطالب بتنفيذ القرار 194 الذي يدعم حقّ العودة للفلسطينيّين إلى أرضهم وديارهم التي اقتُلعوا منها في العام 1948.
ولوحظ في الأشهر الأخيرة، أنّ وكالة ’’الأونروا‘‘ بدأت تسحب يدها تدريجياً من الاهتمام بالنازحين الفلسطينيّين، بتقليص خدماتها لهم. ويقول بعض الفصائل الفلسطينية إنّهم يمتلكون معلومات عن اتّجاه دولي نحو إلغاء ’’الأونروا‘‘ وجعْل الفلسطينيّين في العالم من مسؤولية المفوّضية العليا لشؤون اللّاجئين التي تتولّى أيضاً إدارة ملفّ اللّاجئين السوريّين، وذلك تحت ضغوط إسرائيليّة لدى الولايات المتّحدة والدول الكبرى، وتتذرّع تل أبيب بأنّ ’’الأونروا‘‘ هي الإطار الوحيد في العالم الذي يكرّس توارث الأجيال لصفة لاجىء، ما يخالف مفهوم اللجوء في القانون الدولي، في حين يدلّ الواقع على أنّ “الأونروا” لها صفة مميّزة لأنّ قضيّة الشعب الفلسطيني وحيدة من نوعها في العالم، ولأنّ الوكالة معنيَّة بشعبٍ جرى اقتلاعه بكامله من أرضه، وممنوع أن يعود إليها، وفي حال تمّ إلغاؤها، باعتبارها شاهدة على العودة، فسيفقد هذا الشعب خصوصيّة العودة، وهو هدف إسرائيل.
وتتناقل جهات فلسطينية مُتابِعة معلومات عن وجود اتّجاه لدى أعضاءٍ في الكونغرس الأميركي لطرح تشريعات ترمي إلى أن توقِف الولايات المتّحدة حصّتها من تمويل «الأونروا» فتنهار، ويجري استبدالها بقرارٍ دولي ينقل مسؤولية اللّاجئين الفلسطينيّين إلى المفوّضية العليا التي تتولّى دفع التعويضات لهم ولليهود الذين فقدوا أملاكهم في الدول العربية عندما غادروها. عندئذ، تضيف هذه الجهات، سيتمّ تثبيت فلسطينيّي الشتات حيث هُم، مع بعض التعديلات وفقاً لخصوصية بلدان اللجوء. وعلى الأرجح، سيجري توزيع القسم الأكبر على البلدان التي تهتمّ باستقبال اللّاجئين، ككندا وأستراليا.
من الناحية العمليّة، فإنّ الاستعدادات لترحيل السكّان سبق أن بدأت في الثلاثينيّات، وفكرة التهجير تتجذّر عميقاً في الإيديولوجية الصهيونية منذ البداية، الأمر الذي تكشف عنه مذكرات هيرتزل وجاء فيها: ’’سنحاول دفع السكّان المفلسين (الفلسطينيّين) عبر الحدود من خلال توفير فرص عمل لهم في بلدان العبور بينما نحرمهم من العمل في بلادنا‘‘.
في مذكّراته تحدّث بن غوريون عن فكرة دفع عشرة ملايين جنيه للحكومة العراقية، مقابل استيعاب نصف مليون عربي فلسطيني مهجَّر (مائة ألف عائلة) في العراق.
التطوّر الديموغرافي
في منتصف الستينيّات، شهدت إسرائيل ثورة ديموغرافية، فلأوّل مرّة منذ إقامة الدولة يصبح عدد اليهود الغربيّين أقلّ من اليهود الشرقيّين (المزراح) الذين أصبحوا الأغلبية، مع العلم أنّه في العام 1950 كان اليهود الغربيون يمثّلون 80 في المائة من السكّان اليهود. وقد تحدّث تقرير رفعه السفير الأميركي لدى إسرائيل وولورث باربوور في ذلك الوقت إلى رؤسائه في واشنطن عن تفرقة عنصرية تمارَس ضدّ اليهود الشرقيّين لصالح اليهود الغربيّين (الأشكيناز)، وأكّد فيه أنّه من السهل تمييز مظاهر هذه التفرقة في معظم نواحي الحياة، وتوصّل في تقريره الى قناعة مؤادّها ’’أنّ الانتماء العرقي، و أكثر من أيّ شيء آخر، هو الذي يحدِّد مستقبل الفرد في إسرائيل، وأنّ هذه القضيّة تشكّل مصدر الخطر الأكبر على مستقبل دولة إسرائيل‘‘.
انطلاقاً من كلّ ذلك، فإنّ الثورة الديموغرافية اليهودية وانعكاساتها وأخطارها، ليست أقلّ من خطر الديموغرافية الفلسطينية التي وُصفت بـ “قنبلة الأرحام”، ولكنّها تبقى ركناً من أركان الثورة الديموغرافية، داخل الكيان الإسرائيلي.
وفي أحدث أرقام أعدّها جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني في مدينة رام الله، يبلغ عدد الفلسطينيّين في العالم نحو 12,37 مليون نسمة، من بينهم 6,22 مليوناً يعيشون في فلسطين المحتلَّة، وموزَّعين بين 4,75 ملايين في مناطق السلطة، ونحو 1,47 مليون فلسطيني في إسرائيل، مقابل 6,15 ملايين موزَّعين في الخارج بين 5,46 ملايين في الدول العربية، ونحو 685 ألف فلسطينيّ في الدول الأجنبية.
وعلى الرّغم من انخفاض معدّل الخصوبة عند الفلسطينيّين إلى 4,1 مواليد خلال الفترة 2011-2013، مقارنة بـ 6 مواليد عام 1997، تؤكّد الإحصاءات أنّ خصوبة الفلسطينيّين أعلى من خصوبة اليهود، إذ بلغ معدّل الخصوبة الكلّي للمرأة الفلسطينية في إسرائيل 3,2 مواليد في العام 2014، مقابل 3,1 مواليد لكلّ امرأة في إسرائيل، كذلك بلغ متوسّط حجم الأسرة الفلسطينية في إسرائيل 4,7 أفراد.
ووفق تقديرات دائرة الإحصاء الإسرائيلية، بلغ عدد اليهود في فلسطين المحتلَّة نحو 6,22 ملايين بنهاية عام 2014، وتُقدَّر زيادتهم إلى نحو 6,34 ملايين مع نهاية العام الماضي، اي بزيادة ضئيلة عن عدد الفلسطينيّين، مع الإشارة إلى أنّ عدد هؤلاء سيتجاوز عدد الإسرائيليّين قبل نهاية العام 2017، ولكنّ الدراسة أشارت إلى أنّ الفلسطينيّين سيصبحون 7,14 ملايين، مقارنةً بـ 6,87 ملايين من اليهود بنهاية 2020.
لكنّ اللافت في بيانات الإحصاء أنّ المجتمع الفلسطيني في إسرائيل يُعدّ مجتمعاً فتيّاً، إذ بلغت نسبة الأفراد دون الخامسة عشرة من العمر نحو 34.8 في المائة عام 2014، مقابل فقط 4.2 في المائة للأفراد من عمر 65 سنة وما فوق.
دولة فلسطين
تدلّ هذه الأرقام على أهمّية التطوّر الديموغرافي داخل فلسطين المحتلَّة، وبما يقلق الإسرائيليّين على مستقبلهم، وخصوصاً لجهة قدرة الفلسطينيّين على الصمود لتحقيق قيام دولتهم المستقلّة.
وتحصل هذه التطوّرات في وقت تشهد فيه القضية الفلسطينيّة تحوّلات متعدّدة، أحدثت تغييرات متسارعة على الخارطة السياسية.
ومعاناة الفلسطينيّين في إسرائيل ليست جديدة، بل تعود إلى تاريخ قيام الكيان الصهيوني في العام 1948، وهم ما زالوا يعانون من سياسات التهميش الاقتصادي والتمييز والاستغلال ومصادرة الموارد والأراضي وفرض الاستيطان. وتقوم إسرائيل باستمرار بحجب الموارد الاقتصادية عنهم بهدف ضمان تعلّقهم بالموارد الاقتصادية وأماكن العمل التي تعود إلى الأغلبية اليهودية، وهي تجنّد الاقتصاد الفلسطيني لخدمة مشروعها القومي. وفي ظلّ كلّ هذه التطوّرات، تفاعلت حملة المطالبة بإسقاط “بروتوكول باريس” الموقَّع في 29 نيسان (أبريل) 1994، والذي يُنظِّم العلاقة الاقتصادية مع إسرائيل، وخصوصاً أنّ تل أبيب سبق أن أسقطته بالفعل بممارستها في إخراج غزّة من هذه المنظومة وبناء الجدار الفاصل وغيرها من الممارسات، مع التأكيد على أنّ هذا “البروتوكول” كان المعرقِل الرئيسي لتطوير الاقتصاد الفلسطيني وتنميته، والبوّابة الرئيسية لتفاقم أزمة البطالة التي وصلت في غزّة إلى نسبة 45 في المائة من القوى العاملة، فضلاً عن تدهور مستوى المعيشة وزيادة معدّلات الفقر المدقع، نظراً للقيود الثقيلة التي يفرضها على تطوّر مختلف قطاعات الاقتصاد الفلسطيني، من زراعة وصناعة وخدمات واستثمارات ماليّة وتكنولوجيا.
*كاتب ومحلِّل اقتصادي- لبنان
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)