الجنوبان وبريد البنادق
أكدت تجارب أعوام 2000 و2006 و2021 أن في الإمكان تعويض استراتيجية “دول الطوق” التي اقترحها عبدالناصر، باستراتيجية بديلةومؤقتة هي “قوى الطوق”.
تكتسب المقاومة في الجنوبين، اللبناني والفلسطيني، أهميتها من تشظي المشرق العربي الرسمي، والاستفراد الإمبريالي- الصهيوني- الرجعي بسوريا، واستنزافها، ومنعها من أن تتحوّل إلى رافعة تاريخية للأمة كلها، كما تستمدّ أهميتها من مجموعة من القواسم المشتركة والدروس السياسية والميدانية:
أولاً، القواسم السياسية المشتركة
1- الخطاب والخطّ للمقاومة المسلحة ضد العدو الصهيوني، وما يمثّله من تناقض تناحريّ في حد ذاته، كما في تحالفاته مع الرجعية والتبعية والقوى الطائفية والتكفيرية.
هكذا، في مقابل الخنوع للعدو وخطابه التلمودي (اليهودي السيد والعربي العبد)، فإن قوى شعبية لا تملك ترسانات الرجعية التي أُنفقت عليها مليارات الدولارات، امتلكت إرادة الكرامة والقتال، وهزّت صورة العدو في قرنيه اللّذين لا يُقهران، “الميركافا” والتفوق الجوي، وجعلتهما أَعْضَبَين.
2- إعادة الاعتبار إلى الصراع مع العدو الصهيوني، كتناقض تناحريّ أساسي للأمة كلها، في مقابل الإزاحات المشبوهة، والتي حاولت وتحاول استبدال تناقضات وهمية، مثل إيران، بهذا التناقض، وفقاً للضخّ الدائم لتقارير معهد واشنطن وهرتزليا الصهيونيين.
3- وحدة قوى المقاومة على مستوى الإقليم، والناجمة عن وحدة التهديدات والمخاطر، كما عن اتساع المساحة السياسية لخطاب المقاومة وثقافتها، في ضوء تراجع دولة التبعية القُطرية وتفسُّخها، وعجزها عن تجديد نفسها في وسط من الفوضى وسيناريوهات الكونفدراليات الطائفية والجِهَوية.
ثانياً، الدروس الاستراتيجية والميدانية
1- أكدت التجربة في الجنوبين، تجربة حزب الله في لبنان عامَي 2000 و2006 وإلحاقه خسائر كبيرة بالعدو وإجباره على الانسحاب، وكذلك صمود غزة والشعب الفلسطيني عموماً، بدءاً بالصمود الكبير الأول إلى “سيف القدس”، أكدت أن في الإمكان تعويض استراتيجية “دول الطوق”، التي اقترحها عبد الناصر، باستراتيجية بديلة، ولو موقتاً، هي “قوى الطوق”.
2- أكدت التجربة في الجنوبين أن الخَواصر الجغرافية- السياسية، في ظروف معينة، قادرةٌ على أداء دور المراكز، بعد أن حاول الإمبرياليون والصهاينة توظيفها جيوباً عميلة، مثل جيب لحد.
3- ليس أمراً مُبالَغاً فيه أن مبادرة حزب الله إلى تطوير حرب الصواريخ وتقنياتها ومداها، نجحت ميدانياً في بناء استراتيجية توازن وردع معاً، في مقابل التفوّق الجوي الاستراتيجي للعدو بدعم أميركي.
كان استهداف عشرات الأهداف الاستراتيجية الصهيونية، العسكرية والاقتصادية، في حرب تموز/يوليو 2006، درساً كبيراً في الحروب المماثلة، كما حدث خلال معركة غزة و”سيف القدس”، والأرض الفلسطينية عموماً. فكما أدّت هذه الصواريخ دوراً أساسياً في وقف العدوان الصهيونية عام 2006 وهزيمته وانسحابه، أدّت دوراً مماثلاً في وقف العدوان الصهيوني على غزة.
4- بالمثل، يُشار إلى دور صواريخ “كورنيت” السورية في الحالتين، وهي الصواريخ التي نجح حزب الله في تأمينها لمقاومي غزة، وأدّت دوراً في منع العدو الصهيوني من التقدّم داخل القطاع، وسبق أن أنهت أسطورة “ميركافا” في معركة وادي الحجير في جنوبي لبنان.
تباينات من باب الاستدراك
بالرغم من القواسم المشتركة السابقة الذكر، فإن ثمة تباينات بينهما لا يجوز إغفالها، مع ضرورة العمل على تذليلها وتطويقها بمزيد من العمل على فضح الأوهام والمراهنات السياسية على مناخات “التعايش” المزعومة والموهومة مع عدو، تقوم فلسفته وماهيته الجوهرية على العنصرية والتوسع والإجرام، ناهيك بوظيفته العضوية في الاستراتيجية الامبريالية.
ففي مقابل الخط السياسي الواضح لحزب الله، وبيئته محلياً وإقليمياً، ورؤيته للتكتيك السياسي في إطار استراتيجية شاملة للاشتباك مع العدو الصهيوني، و”تموضعات” هذا العدو المتعددة مع جماعات الإسلام السياسي الأميركي البريطاني في سوريا والعراق واليمن، فإن رؤية القوة الأكبر في غزة، وهي “حماس”، مشوَّشة، من شعارات الهدنة الطويلة، وصلح الرملة، الذي يشي باعتراف غير مباشر بالعدو، إلى الاشتراك في الانتخابات البرلمانية على قاعدة “اتفاقية أوسلو”، إلى العلاقات بقوة أطلسية تعترف بالعدو الصهيوني وتُقيم علاقات واسعة به، وخصوصاً على الصعيدين الأمني والعسكري، مثل تركيا.