الجيوبوليتيك العربي في مقام التآكل
تتوخّى هذه المقالة الإحاطة الإجمالية بالتحوّلات التي أطلقتها اتفاقية سايكس بيكو سحابة مائة عام على الجغرافيا العربيّة المشرقيّة والآثار المترتّبة عنها راهناً. ولقد كان عليّ، تبعاً لذلك، أن أقارب الاتّفاقية من وجهَين متلازمَين: أولّاً، بوصفها حادثاً تاريخياً فَتح على زمن وخَتم على آخر، وبوصفها ثانياً، أطروحة مؤسِّسة لثقافةٍ سياسيّة حكمت وعي نخب الأمّة وجماهيرها على امتداد أجيالٍ متعاقبة.
من جهة كونها حادثاً تاريخياً، شكّلت منظومة سايكس – بيكو لحظة انتقال تاريخي من حيِّز ما اصطلح عليه بالوطن الإسلامي تحت رعاية الدولة العثمانية المترامية الأطراف، إلى حيِّز مغاير أملته رغبات الإمبرياليات المتصاعدة للحداثة الغربية ومصالحها. كانت الحصيلة أن جرى تحويل الوطن الواحد إلى رهطٍ من الأوطان، وصارت الحدود في ما بينها أشبه بـ”جُدُر مقدّسة”، أطلقت منازعات وحروباً واستولدت فتناً لا تني تداعياتها تعصف بتلك الأوطان من كلّ جانب.
أمّا من جهة كونها أطروحة في الثقافة السياسية التاريخية، فقد أنشأت سايكس- بيكو حقلاً خصباً لولادة الأسئلة الكبرى حول ماهيّة ثقافات الدول الناشئة وهويّتها ومستقبل شعوبها.
سايكس بيكو كحادث وأطروحة معاً، هو في الناتج العام هندسة جيو- سياسية وثقافية وأمنية أنجزتها أمبرياليّتا الحداثة الفرنسية والبريطانية في مطلع القرن العشرين، لتفتح بذلك بداية التاريخ الجديد في شبه القارّة العربية – الإسلامية.
صورة الجيوبوليتيك العربي – الإسلامي اليوم، ولاسيّما في ناحيته المشرقية، هي امتداد للصورة الأصلية قبل مائة عام؛ فإنّها لا تفارقها إلاّ في تقنيات الظهور والتظهير. قد يقول قائل إنّ توصيفاً كهذا قد ينقل إلى الأذهان انطباعاً مؤدّاه، أنّ تبديلاً جوهرياً في ما انعقدت عليه هندسة سايكس – بيكو بات لا وجوب له، ما دام كلّ حدث يجري الآن لا يناقض الحادث المؤسِّس ولا ينفيه. قد يكون لهذا التوصيف حظّ من الواقعية لو انتأينا قليلاً عن زحام التحوّلات الذي يطوي المنطقة تحت أجنحته الدمويّة منذ العام 2011. حالئذ سوف يظهر لنا وصلٌ جوهريٌ بين منطق سايكس بيكو في بدايات القرن العشرين، وما ينبني عليه المشهد المتمادي في مستهلّ القرن الحادي والعشرين؛ فالحاصل هو أدنى إلى الاستئناف المتجدّد لهذا المنطق. حتّى الجيولوجيا السياسية الأمنية التي تعصف بالمنطقة منذ نحو سنوات ستّ، لا تخرج عن هذا الفضاء الممتدّ. فما عُرف بربيع العرب، كان أدنى إلى ثورات وثورات مضادّة، وحروب أهلية تغذّيها محاور إقليمية ودولية.. وكلّ ذلك يجري في منازل الجيوبوليتيك العربي على نحوين متوازيين:
النحو الأول: اضطراب في التحوّل الداخلي، أدّى إلى وضع الجيوبوليتيك السياسي والاجتماعي العربي أمام حدّين سالبَين: حدّ الاستغراق في الفوضى والعنف.. وحدّ المصادرة والاحتواء.
النحو الثاني: احتدام في فضاء الإقليم بلغ ذروته مع ترتيبات دولية مستأنفة، غايتها إعادة تشكيل مظلّة أمنية جيوستراتيجية، تغطّي شبه القارّة الشرق أوسطية، وتركّز بصفة خاصّة على البلدان العربية المحيطة بالدولة اليهودية في فلسطين.
بين هذين النحوين، ستظهر إرهاصات زمن رمادي من علاماته الفارقة، عسر الولادة الطبيعية لربيع ثوري عربي، يملك حظَّ الاستقلال عن المداخلات الجيوبوليتيكية والتحرّر من مؤثّراتها.
الوجه الأشدّ خطراً في المشهد، ذاك الذي يتولّاه الجهاز الإيديولوجي النيوليبرالي، في سياق ما نسميه “الحرب على المعنى”. وهو سياق يعمل على اغتيال الولاء للهويّات الوطنية، وتفكيك منظومات القيم الفكرية الدينية والأخلاقية، وخصوصاً تلك التي أسّست لتلك الهويّات، ومنَحتها التسديد والتأييد على امتداد أجيالٍ كاملة. فلئن كانت الغاية الابتدائية من وراء هذه الموجة، صناعة وعي عامّ قابلٍ للإذعان، فإنّ غايتها القصوى تتمثّل في جعل الجمهور المُستهدَف راضياً بما هو عليه، وممتنعاً بإرادته عن التساؤل والنقد والاعتراض. وأمّا حاصل ما تنشده، فهو أن تحيل المهيمَن عليه إلى وضعية تجعله غافلاً عمّا هو فيه، وتدفعه نحو قناعات تُفضي به إلى الاستسلام والإصغاء والتمثّل.
في الوضعيّة العربية، تتحرّك وقائع “الحرب على المعنى” في السياق التاريخي الممتدّ لأطروحة سايكس بيكو من ضمن ثلاثة محاور:
الأوّل: مصادرةُ أيّ احتمال للتغيير، من شأنه أن يضع دول المنطقة وشعوبها على صراط السيادة الكاملة.
الثاني: استئناف إمبريالية ما بعد الحداثة، ممارسة “لعبة الفوضى والتفكيك” كاستمرار للميراث السياسي والعسكري المديد، ثمّ ليظهر بقوّة في حقبة المحافظين الأميركيّين الجُدد.
وأمّا المحور الثالث: فيقصد الساعون إليه احتواء مشاعر التفاؤل لدى شعوب المنطقة؛ وذلك ما يظهر بصورة جليّة في تبهيت البُعد الوطني والأخلاقي والإيماني لثقافة نزع الاستعمار ومقاومة الاحتلال. سوف نشهد تدفّقاً لسيلٍ هائل من الخُطب والصياغات تتغيّا إجراء تحويلات عميقة في الوعي العربي العام، يصل مداه إلى “عقْلنة” الأطروحة الإسرائيلية، ويهدف إلى جَعْلها جزءاً من الجيوبوليتيكا الحضارية والدينية والسياسية لشعوب المنطقة. ولعلّ ما نشهده من تداعيات، إن لجهة تعميم القيم الليبرالية، والأخذ بثقافة المجتمع المفتوح، أو لناحية تفعيل عمليّات التطبيع، إنما يُظهر المقاصد الحقيقيّة لما اصطُلح عليه بـ “ربيع العرب”؛ حيث احتلّت ثقافته مشاغل التفكير في عالمنا العربي والإسلامي، تحت عناوين الحرّية والديمقراطية وحقوق الإنسان. ولمّا كانت قيم كهذه ذات قابليّة استثنائية للاستخدام في لعبة التوظيف، كانت النتيجة إسباغ الشرعيّة على ما لا شرعية لوجوده، بحيث لا يؤدّي أيّ تغيير ثوري إلى وضع المجتمعات العربية والإسلامية، ومراكز القرار فيها، في مواجهة تاريخية مع السيطرة الثقافية الاستعمارية، وبالتالي مع الدولة اليهودية في فلسطين.
إذا كانت هذه هي السِمات الإجماليّة للتحوّل العربي، فالذي يبدو من صورته المستخلَصة، هو الإنباء عن زمن استثنائي وجديد من الاحتدامات المفتوحة.
ترتيباً على الزمن المستحدَث هذا، سوف ينكشف أمامنا منفسحٌ تاريخيٌّ رخو تتعادل فيه رهانات النهضة مع هواجس النكوص والإحباط.
ما فعله سايكس بيكو كان أشدّ عمقاً وتجذّراً وخطورة على الماضي والراهن والمقبل من مجرّد تقاسم نفوذ على جغرافيّات الإمبراطورية العثمانية المنهارَة. فلسفته العظمى إطلاق سيرورة طويلة الأمد من الانسداد الحضاري. ولو عاينَّا البيانات الإجمالية لهذه السيرورة، سنلاحظ جريانها على ثلاثة خطوط متلازمة:
الخطّ الأول: إقامة جدار إسمنتي سميك أمام سريان قيَم الحداثة إلى الدول والمجتمعات المشمولة بجيوبولتيك التجزئة: التحرّر من التبعية – بناء الدولة الأمّة – العدل الاجتماعي والديموقراطية.
الخط الثاني: إنشاء جيوبوليتيك عسكري استيطاني يتولّى حفظ التموضع الإمبريالي المستحدَث، ويضبط أيّ خرق ثوري استراتيجي لمثل هذا التموضع.
الخطّ الثالث: التأسيس لاحترابٍ أهليّ لا قرار له في الأمد المنظور، وذلك عبر جعل مقولة التجزئة استراتيجية عليا لصناعة الحروب المُستدامة، بها تتحوّل الجغرافيا العربية أرضاً لا تهدأ، وبسببها لا يكون لشعوبها منفسح للبناء والتقدّم. والحصيلة الإجمالية لهذا الخطّ، لا تُفضي في جوهرها إلى ما يتعدّى منطق سايكس بيكو ومقاصده، بل إلى تجدّده على نحو يساوق الشروط الموضوعية لأحوال المنطقة والعالم.
المنفسح الدموي الذي نعبره اليوم، يدخل دخولاً أصيلاً في المقاصد المعاصرة لميراث سايكس بيكو. لم تكن فلسفة الفوضى الخلاّقة التي اقترفها عقل المحافظين الأميركيّين الجُدد، سوى تظهير مستأنَف لفلسفة التجزئة التي سرت مفاعيلها في العام 1916، وها هي اليوم تتمدّد إلى كلّ ناحية في أصقاع الجيوبوليتيك العربي المعاصر.
لفتاً إلى عمق أطروحة سايكس بيكو و”أصالة حضورها” في التكوين التاريخي للجيوبوليتيك العربي، أنّها استطاعت أن تستولد مقولة الإرهاب ثقافة وفعلاً وامتداداً جغرافياً، لتزيد من فاعليات الانسداد الحضاري، ثمّ لتدفع بسيلٍ هائل من التفجير، حفظاً لما استكانت عليه المنطقة قبل قرن خلا.
إنّ ما يبدو اليوم على نشأة التفتيت بعد مائة عام على التجزئة، هو ضرب من حضور بيّن للماضي في الحاضر؛ بل هو أدنى إلى تراجيديا دامية تُدار بعقلٍ صارم ونفسٍ باردة. وما ذاك إلاّ للحفاظ على أسوار مدينة سايكس بيكو الفاضلة.
التراجيديا المُستأنَفة اليوم على نصاب التجدّد، قد لا تتعدّى جوهرياً حدود ما شرّعه الدبلوماسيان البريطاني والفرنسي. فما دام كلّ شيء يجري في السياسة والحرب ولعبة الدم باقياً داخل السور المحفوظ، فليس من شيء يجري إلاّ وفق إيقاع مُحكم. وما ذاك إلاّ لأنّ مآل المواجهات داخل الجيوبوليتيك العربي وحوله، هو العودة المنظورة إلى موائد التسويات.
*باحث في الفلسفة السياسية- لبنان
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)