الحرب الباردة كصراع حضاري [3/3]: من رهاب الشيوعية إلى رهاب الإسلام
في السجالات الدارجة عن الحرب الباردة ومآلاتها، غالباً ما تقوم السرديات الثقافاوية، اليسارية-الليبرالية من ناحية، والإسلامية من ناحية أخرى، على المزاودة وتبادل الاتهامات بشأن «التعاون مع الغرب والإمبريالية». بالنسبة إلى الإسلاميين، فقد تبنّوا سرديّة المؤامرة الغربيّة على الإسلام التي تواطأ فيها العلمانيون والقوميون العرب والشيوعيون من أجل «تغريب المجتمع المحلي». وبالنسبة إلى اليساريين الليبراليين، فإن الأنظمة السياسية الإسلامية والجماعات الإسلامية كانت «الحليف الحميم» المتواطئ مع الإمبريالية الغربية خلال الحرب الباردة.
في الجزء الثاني من هذا الملف، وضّحنا كيف اعتبرَ «الاستشراقُ الأطلسي» الحربَ الباردة بالأساس كصراع حضاري. سندرس في هذا الجزء الأخير كيف أدّى ذلك إلى علاقة مع الآخر «الإسلامي» مختلفة في تعقيدها عن السرديات التبسيطية الوارد ذكرها أعلاه، علاقة في ظاهرها تحالف مؤقت وفي باطنها عداء وجودي.
الاستشراق الأطلسي معكوساً
في معرض تناوله لأطروحة إدوارد سعيد، يتحدّث صادق جلال العظم عن تحذير سعيد للمثقفين والمفكرين الشرقيين من ظاهرة الاستشراق المعكوس والتي عرّفها العظم بأنها عملية استعارة الفرضية الأساسية المعرفية للاستشراق الغربي القائلة بأن الشرق شرق والغرب غرب ولكل منهما طبيعته الخاصة وخصائصه المميزة قبل قلب حكم القيمة المتضمن في هذه الفرضية بحيث يعمل صراحة أو ضمناً لمصلحة الشرق هذه المرّة.
وقد شرح العظم أثر هذا الاستشراق المعكوس لدى تموضع الإسلاميين في سياق الحرب الباردة. «لا غرابة أن يستعيض الإسلامويون في تفكيرهم، عن التعارض المألوف بين حركات التحرر الوطنية من جهة والسيطرة الإمبريالية من جهة ثانية، بتعارض من نوع آخر… بين الشرق والغرب». يوضح العظم نتيجة هذا الاستبدال، حيث يؤدي إلى وضع الماركسية والشيوعية في خانة الأعداء الوجوديين للشرق الإسلامي، متجاهلين أن تكون الماركسية والشيوعية من إنتاج الجانب الثوري والتحرري والإنساني والمعارض في الغرب، ومتجاهلين أيضاً أن إنجازاتها التاريخية والاجتماعية الكبرى قد تمت في الشرق. يكشف العظم كذلك النسخة الأطلسية من ذاك الاستشراق المعكوس، عندما يصف عداء الغالبية الساحقة للمستشرقين الغربيين في القرن العشرين للشيوعية وحرصهم الشديد على حماية روح الشرق وأصالة الإسلام من تأثيرات الشيوعية الضارة وأفكارها الهدامة.
بالطبع لم تكن وظيفة الاستشراق الأطلسي المعكوس هنا المحافظة على الإسلام وحمايته من التأثيرات الخارجية، وذلك بتحييده عن الصراع، بل كان الهدف الأساسي جر الإسلام إلى الصراع لخلق ما يشبه «الاحتواء المزدوج» بين الإسلاميين والشيوعيين وبين العالمين الثاني والثالث.
في البداية، تم توظيف الاستشراق الأطلسي المعكوس من أجل بناء الأحلاف الأمنية المقلدة لحلف الأطلسي مثل حلف جنوب شرقي آسيا (الذي تفكك بعد انتصار فيتنام الشمالية) وحلف بغداد (الذي تفكك بعد الثورة الإيرانية). على سبيل المثال، في الخمسينيات، فضل الديبلوماسيون الأميركيون الابتعاد عن الهند والتوجه إلى باكستان (صاحبة العضوية في الحلفين شبه-الأطلسيين المذكورين أعلاه)، لأنهم نظروا إلى الهندوسية على أنها «مؤنثة ومسالمة وغير حاسمة» وإلى الإسلام على أنه «ذكري وحيوي وصارم في مواجهة التهديد الشيوعي».
من ثم تطورت هذه السياسة في جنوب ووسط آسيا خلال الحرب الباردة وصولاً إلى عقيدة الاستشراق المعكوس لدى رونالد ريغان الداعمة للتشكيلات العسكرية والجماعات من غير الدول وعلى رأسها المجاهدين الأفغان «مقاتلي الحرية». في ذاك السياق مولت وكالة التعاون الدولية الأميركية إنشاء المناهج الدراسية للأطفال في المدارس المدارة من قبل المجاهدين، والتي صممت من أجل تلقين الجهادية العسكرية الإسلامية لكي تكون بديلاً مناسباً للماركسية. هنا لم تعد النخبة الأطلسية في السبعينيات والثمانينيات تصر على الوصاية الغربية على الحداثة فحسب، بل باتت تفضل الأصولية على الحداثة الاشتراكية، طالما أن مثل هذا الرفض الأصولي للحداثة يمر كذلك عبر الوصاية الغربية.
أسلاف صامويل هنتنغتون في الحرب الباردة
استخدمت النخبة الأطلسية سردية «الشراكة والصداقة» بين الغرب والإسلام كدعاية تظهر الصراع العالمي ضد الشيوعية بمظهر التحالف العالمي متعدد الثقافات. إلا أن الثابت كما أشرنا هو اعتبار تلك النخبة الحرب الباردة كصدام حضاري. هذه الرؤية تعد بمثابة سليف لأطروحة صامويل هنتنغتون بشأن صدام الحضارات بعيد نهاية الحرب الباردة.
إذا كان الاستشراق الأطلسي قد صمم في جو هيستيري تمت فيه عسكرة الفكر من أجل اتهام الأنظمة الاشتراكية الحديثة في أوراسيا بالاستبداد الشرقي لمجرد كونها شرقية، فمن البديهي أن يكون معادياً للشرائع والتنظيمات الاجتماعية الشرقية كافة بما يشمل الإسلام. على سبيل المثال، ادعى مفكر «الحرب على الشمولية» الهنغاري آرثر كوستلر، بفجاجة «الطبيعة المتعصبة الأكيدة للإسلام، تلك العقيدة القاسية، التي ولدت في الصحراء، والتي لم يتم إصلاحها وتحريرها، والتي باتت في حالة جزع على مرحلة التقدم الذي وصلت إليه المسيحية منذ حقبة محاكم التفتيش».
أما المستشرق برنارد لويس، فقد ألقى في عام 1953 خطاباً في مؤسسة «تشاتام هاوس» يصف به نقاط التلاقي بين الآخر الإسلامي والآخر الشيوعي: «إذا اضطرت الشعوب المسلمة أن تختار بين الديموقراطية البرلمانية والشيوعية، فسنجد أنفسنا [نحن الغرب] في وضع صعب…». يدعي لويس أن الشمولية هي سمة أساسية في الإرث السياسي الإسلامي، ولذلك، مهما كان الإسلام معادياً للشيوعية، إلا أنه يملك في جوهره «عناصر قد تمهد الطريق إلى الشيوعية».
وقد اقتبس لويس نظرية كارل ويتفوغل بخصوص أصول الاستبداد الشرقي عندما ادعى أن النظام الاجتماعي الإسلامي تطور في مصر والعراق، أي في حوض النيل وحوض دجلة والفرات. وقد احتاجت تلك المجتمعات النهرية إلى سلطة مركزية قوية تضمن بناء وصيانة البنية التحتية الهيدروليكية الشاسعة، وبناء على هذا الأساس، اعتبر لويس أن الاستبداد الشرقي هو سمة أساسية مشتركة بين المجتمعات الإسلامية الكبرى والمجتمعات ما قبل الشيوعية الروسية والصينية. على هذا النحو، ادعى لويس أن السلطوية الإسلامية قامت تاريخياً على ثلاث أسس، البيروقراطية والجيش والسلطة الدينية، قبل أن اقتبس فرضية ألبرت حوراني بشأن عودة مصر الناصرية إلى هذا الشكل من الحكم، وقبل أن خلص إلى أن «الأساس الثالث فقط، أي السلطة الدينية، بحاجة إلى التغيير من أجل الدفع بالطريق إلى دولة شيوعية».
أسلاف فرانسيس فوكوياما في الحرب الباردة
مفترق أساسي آخر بين الغرب والإسلام خلال الحرب الباردة تمحور في قناعة النخبة الأطلسية بشأن النهاية الليبرالية للتاريخ. هذه القناعة هي سليف لفكر فرانسيس فوكوياما في نهاية القرن. هنا نذكر مثال الاستراتيجي البريطاني، السير أولاف كارو، والذي كتب في عام 1953 دراسة تدعي وجود «استعمار سوفياتي» في وسط آسيا، برر فيها تطوع المعتقلين التركستانيين والوسط آسيويين مع جيش هتلر الغازي للاتحاد السوفياتي بحجة تحرير وطنهم من الحكم السوفياتي (على نحو يذكر بالمديح الغربي بالكتائب النازية في أوكرانيا)، قبل أن يتناول موضوع الإسلام في وسط آسيا قائلاً إنه «تم إدخال إصلاح كبير واحد من قبل السوفيات، تحرير المرأة وخلع الحجاب»، إلا أن «أمهات المتطوعين في الحرب العالمية الثانية لم يخلعن قيمهن التركية ووطنيتهن مع حجابهن. ومع ذلك، إذا كان هناك شيء جديد سينبثق بالفعل من الصدام بين الروس والأتراك في آسيا الوسطى، لن يكون مجرد إحياء للتعصب الجامد [الديني] الأعمى في بخارى، أو حتى القبلية البدائية في السهوب».
يضع كارو عاتق المستقبل ليس على «العلماء» ورجال الدين المسلمين بل على «النساء والرجال الذين تعلموا بالمدارس السوفياتية». ولا يتوقع كارو من خريجي التعليم السوفياتي أن يكونوا، على حد تعبيره، «بعظمة غاندي أو جناح، بخاصة وأن هؤلاء الرجال، للمفارقة، تعلموا بالمدارس الإنكليزية»، لكن هؤلاء المتعلمين والمتعلمات «بطريقتهم الخاصة سيثيرون دهشتنا. بينما الطغيان [السوفياتي] الآن في ذروته سينتظرون، وعندما ينكسر الطغيان -وسينكسر تحت ضغط الصراعات الداخلية- ستأتي فرصتهم. ستسنح لهم فرصة من موقعهم في الأطراف للالتقاء بالعالم الخارجي، عندها قد يقول أحفادنا أن الكتلة الخاملة من الطقوس الطبقية والتعصب الأعمى التي تمثل بها الإسلام الذي مورس في بلاد ما وراء النهر [في آسيا الوسطى]، احتاجت إلى الضربة العنيفة الناجمة عن المواجهة مع الشيوعية لبعث الحياة فيها وتجديدها».
ويكمل «كارو»: «من الواضح أن التطلعات العتيقة لشعوب آسيا الوسطى لم تفشل بعد؛ يوجد أيضاً سبب لافتراض أن تأثير الجديد [السوفياتي] لم يكن مدمراً بالكامل، ولكنه عملية تحفيز ودفع قد تؤدي إلى تجديد حياة. من خلال هذا اللقاء بين ما هو قديم وما هو جديد، سيولد نسل جديد. ويقع على عاتق العالم الحر [أي العالم الغربي] أن يتوقع موعد الولادة وأن يتجهز لرعاية هذا الجديد».
المفارقة الحقيقية هنا تكمن في أن كارو الذي عمل حاكماً إدارياً في إحدى ولايات المستعمرة الهندية لدى بريطانيا قبل الاستقلال، قد قام بالمحاكاة والتناص مع نهج كارل ماركس في أطروحته بشأن الهند. بينما رأى ماركس في الحكم الاستعماري الإنكليزي وكل ما جلبه من معاناة وقسوة على سكان الهند ضرورة من أجل إحداث الثورة الاجتماعية في آسيا والوصول إلى المرحلة الاشتراكية، رأى كارو أن الاشتراكية السوفياتية في وسط آسيا كمحطة ضرورية على الطريق إلى نهاية التاريخ حيث تنتصر الليبرالية الغربية. يجعل كارو هنا «العالم الغربي الحر» القابلة التي ستشرف على توليد الشرقيين الحديثين الجيدين المقبول بهم من قبل المركزية-الأوروبية.
الخاتمة
في المحصلة، كانت علاقة الغرب بالإسلام في الحرب الباردة، كعلاقة الغرب مع بقية العالم في تلك الحقبة. إذا كان الاستشراق عبر-الأوروبي (أحد سلائف الاستشراق الأطلسي منذ القرن الثامن عشر) قام على وجود شرق أوروبا في تجربة تقليد ومحاكاة خلال مرحلة انتقالية إلى «الحضارة الغربية»، فإن الاستشراق المعاصر قائم على وجود العالم غير الغربي بأسره -بما يشمل العالم الإسلامي- في هذه المرحلة الانتقالية. إلا أن تناقضات المركزية الأوروبية تجعل الخروج من هذه المرحلة مستحيلاً، ذلك لأنها أيديولوجية تدّعي العالمية، كما يقول سمير أمين، بينما تعيق في الوقت ذاته، الظروف المادية الضرورية من أجل تحقيق مشروعها الحداثي على مستوى العالم.
هذا الوعد المستحيل يحول المركزية الأوروبية التي تطورت ونمت في الحرب الباردة إلى ديانة جديدة بحد ذاتها (ترفض ديانات العالم القديم كافة) وتفصل أوروبا عن أوراسيا وأفريقيا وتحولها إلى «جنة» يرغب الجميع بها. يعبر عن تلك الميتافيزيقية الأكاديمي البريطاني كريس هان بقوله: «من وجهة نظر ناشط المنظمات غير الحكومية في تبليسي [جورجيا]، أو حتى في موسكو، الأمور ليست عادلة. تماماً مثل «اليوروقراطيين» [بيروقراطيي الاتحاد الأوروبي] الليبراليون في بروكسل، يؤمن هؤلاء الناشطون في أوروبا ويؤمنون بالنموذج الغربي للمجتمع المدني، بل بإمكاننا أن نقول إن هذه هي كنيستهم [وديانتهم]».
أمّا الكونية الحقيقية فهي تتطلب إعادة التفكير في مجمل النظام العالمي الرأسمالي من النواحي كافة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بحيث تصبح عملية انتقالية طويلة تتطلب تضحية هائلة من المجتمعات البشرية كافة بدءاً من المجتمعات الغربية. أمّا المركزية الأوروبية فهي طريق لن يؤدي أبداً إلى تلك الكونية، بل سيؤدي مرة تلو الأخرى إلى الصدام مع آخر جديد أكان شيوعياً أم إسلامياً، أو عربياً أم سلافياً.
صحيفة الأخبار اللبنانية