الحقيقة بين غيابها و حضورها
قول الحقيقة ليس تعبيرا عن الصدق أخلاقيا فحسب وإنما هو تعبير عن مغزى وجود الشيء ذلك لأننا نريد دوما أن نعرف الحقيقة حتى عن المسائل المطلقة المستحيلة كأن نسأل عن الخلق أو الخالق و حين نعجز عن الوصول إلى جواب مقنع نفقد أحيانا ثقتنا بجدوى الوجود كله .
كلنا نبحث عن الحقيقة حتى عن ذاتنا لكم يأخذنا الفضول لمعرفة الذات البشرية ما هي طبيعتها الحقيقية إذ ليس أصعب من الحياد والنزاهة في تعامل الإنسان مع نفسه ، و ربما لهذا السبب صنف ” سقراط ” معرفة الإنسان ذاته على أنها الحكمة الأولى في أهميتها حين قال :” إعرف نفسك ” و كأنها أصعب المعارف. ومن يستطيع أن يصدر حكما مقنعا في كثير من الأمور المجهولة حتى الآن والتي من صنع البشر أنفسهم وإن لا فمن يستطيع أن يصدر حكما مقنعا مثلا في مقتل رئيس الولايات المتحدة الأميريكية ” جون كندي ” و إذا كان الفساد مستشيريا في الوطن العربي كما يقولون منذ قرون عديدة و لا يزال يتكاثر حتى الأن ، فما هي الحقيقة في أسبابه ؟ و إذا كان من يحمي الفساد هو هذا النظام أو ذاك فما هي حقيقة الجهة المسؤولة عنه ؟!.
كل هذه الأسئلة وغيرها وهي أكثر من أن تحصى لم نصل بعد في شأنها إلى جواب مقنع حاسم فأين الحقيقة إذن فيها ؟ ما من ريب في أن كمية الحقائق التي حصل عليها البشر عبر مسيرتهم التاريخية المديدة أقل بكثير من الحالات التي غابت فيها الحقائق و سجلت أخيرا بأنها ” ضد مجهول “.
و لا تغيب الحقيقة من دون أسباب فإذا تركنا الحقيقة المستحيلة حول موضوع الخلق و الخالق ، وقصرنا حديثنا على الجرائم التي يرتكبها البشر بعضهم ضد بعض فما شك أن من أهم أسباب غياب الحقيقة فيها هو قدرة الجاني على إخفاء الحقيقة وبالتالي على آلية التحقيق بإيصالها إلى طريق مسدود لا يجرؤ أحد على الإقتراب منه أو لأنه لا يستطيع النفاذ من هذا التحقيق إلى الحقيقة .
إن الأقوياء – أو الأكثر قوة – كالحكام المستبدين قادرون على طمس الحقيقة حسب مصالحهم ، أما الضعفاء فهم وحدهم الذين يمكن كشف الحقيقة عما إرتكبوه من جرائم و هم وحدهم الذين يتعرضون للعقاب .
غير أن كل هذه المصاعب و العقبات لا تمنع البشر من أن يواصلوا جهودهم في البحث عن الحقيقة و إعلانها ، ومن دون ذلك فإنهم يفقدون ليس الثقة بوجود العدالة على أرض البشر فحسب بل قد يبتهجون ضمنا أنهم لا يزالون على قيد الحياة ذلك أن إحتمال إيقافهم عن كشف الحقيقة ممكن و أسهل لإخفاء حقيقتهم كجناة إذا ما تابعوا بحثهم عن الحقيقة و ذلك بقتل المحققين ، و ذلك أن مصرع المحقق ممكن بإستمرار مادام الجناة هم الأقوى في طمس الحقائق ، من خلال سيارة مسرعة مثلاً تدهم المحققة أو الكاتب المهتم بالكشف عن الحقيقة أو بإطلاق الرصاص عليهما و ما أكثر الجنايات التي يرتكبها الأقوياء بالسلطة التي لا يملكونها و لا يتجاسر أحد على كشفها .
يا إلهي !. ما أكثر الحقائق التي لم يكشف عنها التاريخ بعد …
و ما أحوجنا إلى معرفة الحقيقة في كل أمورنا و في زمان حدوثها !!…