الحلم العربي من “الوحدة” إلى تفتيت الدولة الواحدة!
صار “الوطن العربي” بمشرقه خاصة، مع تمدد إلى بعض مغربه، “أرض مشاعٍ” مفتوحةً للعصابات المسلحة رافعة الشعار الإسلامي، بالشراكة ـ معلنة أو مستترة ـ مع قوى الاستعمار الجديد بالزعامة الأميركية.
تختفي، فجأة ومن دون مقدمات، الحدود بين الدول الشقيقة التي طالما ناضل “الشعب الواحد” من اجل إسقاطها توكيدًا لوحدته وتوطيدًا لمسيرته نحو الغد الأفضل، وترتفع رايات “الخلافة الإسلامية” فتستنبت او هي تبعث من بطن الماضي إمارات العشائر ومشيخاتها، ويغيب العلم الوطني، ويختفي الجيش الوطني الذي سيتبعثر بحسب الانتماء المذهبي لضباطه وأفراده.
تصير سوريا مجموعة من المقاطعات تتحكم في بعضها تنظيمات مسلحة تتوحد تحت شعار: “لا إله إلّا الله، محمد رسول الله”، ثم تختلف فتقتتل على حق الإمرة والسلطة وحدود الإمارة، بينما تستمر “الدولة” قائمة في “المركز” دمشق، وينتشر جيشها على مساحات واسعة، فينهكه القتال الذي لا ينتهي ضد تنظيمات تتوالد من ذاتها، وتجد من يرعاها ويدعمها ـ عربيًا بالأساس ودوليًّا ـ بالمال والرجال والسلاح، وتتواصل الحروب من دون أفق للانتصار.
“يذوب” الكيان الرسمي السوري، في إمارات مستقطعة لميليشيات متعددة الهوية، بين “إسلامية معتدلة” و”إسلامية متطرفة” و”علمانية”، يلجأ إليها المنشقون من غير الإسلاميين، الذين يرون أنفسهم “البديل” من النظام القائم المدموغ ببدعة العلمانية.
أما العراق، فيعيش مرحلة الاضطراب العنيف الناجم عن إسقاط “الدولة” بالاحتلال الأميركي، ويتوزع شعبه بحسب الانتماء المذهبي لكل جهة: البعض يريد الانتقام من عصور الاضطهاد وآخرها عهد صدام حسين، فيحاول الإمساك بمرافق الدولة جميعًا، نابذًا “أهل السنة” بعد اتهامهم بإقصائه عن السلطة منذ إقامة الدولة في العام 1920. وهكذا تتآكل الدولة بالجيش والقوى الأمنية وتهدر المليارات نهبًا وصفقات مشبوهة، بينما الأكثرية الساحقة من العراقيين تعيش في قلب البؤس والعوز.
حتى إذا ما دخل “أمير المؤمنين” بطابور مقاتليه من بعض أنحاء تركيا، مخترقًا مئات الكيلومترات في سيارات يابانية لم تستخدم من قبل، وصولًا إلى “الموصل”، انتبهت “الدولة العراقية” من غفلتها فاشتد الصراع بين سياسييها ليحسم نتيجة “تدخل دولي مزدوج” بإقامة حكومة جديدة ضعيفة، وباتخاذ قرار مواجهة ” الخليفة” من الجو: هكذا امتلأت السماء العراقية بأسراب الطيران الحربي التي جاءت على عجل، أميركية وأوروبية و”عربية” وصولًا إلى أستراليا، من أجل ضرب مشروع “الدولة الإسلامية في العراق والشام”.
ومما يضحك ويبكي أن هذه الحرب الكونية على “داعش” قد أسقطت الحدود السورية ـ العراقية، من دون استئذان. وهكذا أسقط الاستعمار الجوي الأممي الاعتبار عن الاستعمار البري الذي كان قد أقام الحدود بين النفوذَين البريطاني والفرنسي في أعقاب الحرب العالمية الأولى عبر تقسيم بلاد الشام دولًا شتى أبرزها العراق وسوريا. وإذا ما أُسقطت هذه الحدود، فعلًا، صار مشروعًا الحديثُ عن “دول” أخرى في المنطقة، أولها الأردن (وصولًا إلى فلسطين) وآخرها لبنان الذي يعيش نظامه السياسي ـ وبالتالي كيانه ـ في قلب العاصفة.
في الطرف الآخر من شبه الجزيرة العربية، يشهد اليمن “فورة سياسية” تهدد كيانه السياسي، المتصدع أصلًا، بالانهيار، إما عبر تقسيمه مجددًا بين شمال وجنوب، وإما عبر حرب أهلية مفتوحة، بما يريح السعودية ويرد على “الهجوم الإيراني” بفرط اليمن جميعًا حتى لا يكون منصة هجوم مباشر على المملكة المذهبة.
أما على الجانب الأفريقي للوطن العربي، فإن الحرب الأهلية التي تلتهم ليبيا باتت تهدد جيرانها جميعا، وبالذات مصر التي تخوض حربًا شرسة ضد “الإخوان المسلمين” فيها. وها هم “إخوانهم” في ليبيا، وبدعم قطري مفتوح، يحاولون الاستيلاء على السلطة كلها أو بعضها، مما يشكل خطرًا داهمًا على مصر كما على الجزائر عبر تونس، من الجهة الأخرى، مع احتمال انتشار النار إلى بعض دول أفريقيا، وأولها نيجيريا، حيث للتنظيمات الإسلامية أكثر من مدى حيوي.
هل من المبالغة القول إن الأرض العربية مشاع، يأخذها الأقوى بسلاحه أو بماله أو بالأمرين معًا، فإن عَزَّتِ القوة على الغني لجأ إلى الأقوى، ففتح له أرضه وسماءه وآبار نفطه كي يحميه من التنظيمات الإسلامية التي كان المبادر إلى تغذيتها وتعزيزها ونشرها في المحيط، فلما تعاظمت قوتها ارتدت عليه؟ وهكذا انعقدت المساومة الصعبة مع الأميركي الذي كان شريكه في توظيف هذه التنظيمات في حربه على العروبة!
ليس مبالغة القول إننا نشهد عملية تفتيت منهجية لعدد من أهم الدول العربية موقعًا أو ثروة، ما يهدد جيرانها بانتقال النار إليها.
إن سوريا تشهد حالة تفتيت لجهاتها وأنحائها كافة، فيصير الشرق غير غربها، ويصير شمالها غير جنوبها، وفي كل جهة “سلطة” قد لا تدوم طويلًا، ولكن زوالها سيترك جرحًا عميقًا، بحيث يزيد من صعوبة إعادة توحيدها في دولة واحدة. وحتى لو افترضنا أن الدولة المركزية انتصرت عسكريًّا، بعد حروب هائلة الأكلاف والضحايا، فإن إعادة بناء سوريا سوف تستهلك أجيالًا من شعبها، لإعادتها إلى ما كانت عليه، بينما وتيرة التقدم الإنساني هائلة الاندفاع إلى ذرىً كانت في مستوى الأحلام.
أما العراق فهو مهدد بما هو أخطر مما يهدد سوريا: لقد تصرف الغرب مع الأكراد في العراق وكأن كيانهم الذاتي في الشمال ـ كردستان العراق ـ هو “أمة تامة” وكيان سياسي مستقل قائم بذاته وأن العلاقة مع المركز في بغداد هي إلى حد كبير بروتوكولية: يأخذ منها حاجته للاستقلال ويشاركها في مواردها كافة.
إن نفط سوريا منهوب: فقد استولت العصابات المسلحة، بالشعار الإسلامي، على العديد من الآبار، وهي تستخرج النفط وتبيعه لحسابها، والمشتري التركي حاضر؛ بل إن ثمة من يقول إن الدولة المركزية في دمشق “تشتري” نفطها مع غض النظر عن “هوية” البائع!
كذلك، فبعض نفط العراق منهوب، والخط مفتوح ـ تجاريًّا ـ بين «داعش» وأنقره أردوغان، لا يقفله الموقف المتذبذب للرئيس التركي الذي يعميه الغرض وإصراره على إسقاط النظام السوري عن التبصر في هوية “بديله” المفترض.
في المقابل، فإن السعودية، على وجه التحديد، تلعب لعبة أسعار النفط، وهي قد نجحت في خفضها بشكل ملحوظ خلال الأسابيع القليلة الماضية. وهي تستهدف بذلك إيران، حتى وإن تراجع دخل المملكة المذهبة.
أما اليمن الفقير أصلًا، فواضح أن أسعار النفط يمكن استخدامها سلاحًا في معركة تطويعه، واستنزاف إيران فيه، إضافة إلى المضي قدمًا في استنزافها في سوريا وفي لبنان، ومؤخرًا في العراق.
.. وأما النفط الليبي، فيذهب بعضه إلى تسعير الحرب الأهلية فيها، كما قد يذهب بعض آخر منه إلى تأمين كلفة علميات التخريب في دول الجوار: أساسًا مصر، ومن بعدها الجزائر، وربما تونس إذا لزم الأمر لنصرة «الإخوان» فيها وتأمين عودتهم إلى السيطرة على الحكم.. ديموقراطياً، وإلا فخطر التفتيت قائم، ويمكن اللجوء إليه لإعادة المعترضين إلى .. بيت الطاعة!
هل ترانا أمام مشاريع لاستيلاد أكثر من دويلة في العراق المنقسم على ذاته، الآن، فعلًا؟ وأكثر من دويلة في سوريا المشلعة الأنحاء والموزعة غنائم على التنظيمات المتصارعة بالشعار الإسلامي؟ ثم ما مستقبل اليمن و”الدول” المنوي إقامتها، ولو متهالكة فيه؟
وما مصير لبنان؟
ومن يستطيع وقف حروب التقسيم حتى تلاشي الدول في الوطن العربي؟
تلك هي المسألة.
صحيفة السفير اللبنانية