الحلول الأمنية بوابة للحروب الأهلية (عامر راشد)

 

عامر راشد

دلَّلت وقائع المرحلة الانتقالية في بلدان ثورات "الربيع العربي"، على الحاجة الماسة إلى امتلاك المجتمعات العربية لثقافة الحوار، ونبذ العنف بكل أشكاله، ومحذور انسياق البعض وراء الحلول الأمنية بذريعة حماية الثورات، لأن الحلول الأمنية بوابة للحروب الأهلية وانقسام المجتمعات على نفسها.
متلازمة أنظمة الحكم الاستبدادية تمثَّلت دائماً بتكامل أدوار أدوات (الدولة العميقة) الخادمة للاستبداد، التي تحتلُّ كل مفاصل إدارات الدولة العسكرية والأمنية والإعلامية والقضائية والخدمية، وقد أثبتت تجارب المرحلة الانتقالية في بلدان "الربيع العربي" أن هذه الأدوات قادرة على الدفاع عن مصالحها ومكتسباتها، وخوض معارك شرسة ضد التغيير، بتلوين مواقفها واستغلال تناقضات القوى المحركة للثورات للظهور بمظهر الداعم الوحيد للاستقرار، ومنع انحراف الثورات عن مسارها، وتصويب المسار عندما يتطلب الأمر ذلك.
وما كان لهذه الأدوات أن تمتلك قوة الدفع اللازمة لعودتها بسرعة وزخم، إلى واجهة القرار لولا الأخطاء القاتلة، وغير المبررة، التي ارتكبتها أنظمة الحكم الجديدة، سواء في قصور فهمها السياسي، أو في سوء إدارتها، وفشلها في اشتقاق برامج اقتصادية واجتماعية تعالج مكامن الخلل الرئيسية، وتستنهض أوضاع البلاد، وعجز قوى الثورة ككل عن حل، أو على الأقل تحييد وتبريد، تناقضاتها البينية التي يفترض أن تكون ثانوية، في مواجهة التناقض الرئيس مع أنظمة الاستبداد، وبقاياها الكامنة في أدوات (الدولة العميقة) بما تشكِّله من حليف طبيعي لأي ثورة مضادة تعيد إنتاج نظام استبدادي تخدمه ويخدمها.
ومع الاعتراف بوجود فوارق كبيرة بين مستوى تطور أدوات (الدولة العميقة) في بلدان (الربيع العربي)، يضبط قراراتها وتوجهاتها في الدول الأكثر تطوراً، ويحسب في صالح مؤسستي الجيش في تونس ومصر، اللتين رفضتا الانحياز للسلطة، ابان الثورة ضد نظامي زين العابدين بن علي، وحسني مبارك، إلا أن المؤسسات العسكرية بطبيعة تكوينها والدور المناط بها لا تصلح لأن تلعب دوراً سياسياً مقرراً ، فحيثما تدخل العسكر فسدت الحياة السياسية وانحرفت إلى مسار إنتاج نظام استبدادي بقناع جديد، خاصة أن العسكر لا يتدخلون عادة إلا عندما يكون هناك انقسام مجتمعي حاد، وتدخلهم يؤدي في غالب الأحيان إلى زيادة الانقسام والاحتقان، وتكون الخطورة أشد، إذا تم اللجوء إلى حلول أمنية لفرض تغيير في صالح فئة بعينها من الفئات المتصارعة، على حساب فئات أخرى.
ولطالما كانت الحلول الأمنية في حالة الانقسام المجتمعي، بوابة لاضطرابات واسعة خرجت في الكثير من الشواهد التاريخية عن نطاق السيطرة نحو حروب أهلية، لاسيما عندما يوظف الدين أو النعرة الطائفية والمذهبية أو العرقية والمذهبية في الصراعات السياسية. والطريق الأقصر لدرء هذا الخطر بعودة العسكر سريعاً إلى دورهم الطبيعي بعيداً عن ميادين السياسة، ووعي القوى السياسية المتخاصمة بأنه لا غنى عن الحوار كمدخل وحيد وآمن يمكن البناء عليه لحل الخلافات، وإبداء ما يلزم من مرونة لإنجاح الحوار، حرصاً على السلم الأهلي، والاستمرار في مسيرة بناء نظام سياسي جديد يقوم على تعددية حقيقية، وهو ما فشلت في تحقيقه حتى الآن، أنظمة بلدان ثورات "الربيع العربي" في المرحلة الانتقالية.
وبالملموس؛ إن أكبر خطرين يواجهان بلدان "ثورات الربيع" في المرحلة الانتقالية هما المنطق (الصفري) في الصراع بين قوى الثورة، وتحوّل أدوات الدولية العميقة إلى (بيضة القبان) في تغليب طرف على الطرف الآخر، وفي حقيقة الأمر الانتصار لذاتها، كي تحافظ على مكتسباتها واستمرار إمساكها عملياً بإدارة الدولة في شتى المناحي. ومن المفارقات أن بعض المؤسسات التي كان تطهيرها أحد الشعارات الرئيسية في الثورات، بات البعض يدافع عنها رغم أن دورها لم يختلف كثيراً عن السابق، وخاصة مؤسسات القضاء والأمن والإعلام. وللأسف لعبت سياسات الاستفراد بالسلطة دوراً كبيراً في الوصول إلى هذه النتيجة غير السوية في كل المقاييس.  
وحتى وإن بدا اللجوء إلى العسكر كخيار اضطراري، لم تجد بعض القوى بداً منه لحسم الموقف وتسوية الأوضاع الآيلة للانفجار، يظل هذا الخيار في جوهره ليس ديمقراطياً، ويؤسس سابقة يمكن أن تتكرر وتلحق أضراراً جسيمة في مسيرة البناء الديمقراطي، بل وتقوضها، خاصة إذا ترافق التدخل مع تقييد للحريات العامة. وفي حالات الانقسام المجتمعي الحاد إن البحث عن حلول في جعبة العسكر كمن يبحث عن علاج لمريض، وبدل أن يعالجه يفاقم من مرضه أو يقتله، وهو ما لا يدركه كثيرون في أوقات الانفعال والغضب، فيقبلون عليه دون تبصر بنتائجه المستقبلية. رغم أن الحل الأسلم والأجدى يتمثل الحوار وإن لم يعط نتائج سريعة بالمستوى المطلوب.
وما لا يدركه الكثيرون أيضاً، أو يتغافلون عنه وهذه مصيبة أكبر، أن التعامل بمنطق المنتصر والمهزوم لا يساعد على إجراء مراجعات سياسية موضوعية، صار من واجب الجميع الإقدام عليها، لمعالجة الأخطاء، والانفتاح على الآخر، والمقصود هنا انفتاح متبادل بين قوى "الإسلام السياسي" والقوى العلمانية والمدنية، على قاعدة أن الوطن يتسع للجميع في نظام سياسي تعددي ديمقراطي لا يقبل الاستفراد والاستئثار. ودون ذلك ستخسر كل القوى المحركة للثورة وستربح أدوات (الدولة العميقة).
ولفتح الطريق أمام الحوار تقتضي الحكمة التوقف عن شيطنة الآخر، واستسهال التحريض على العنف، وتقدير حقيقة الموقف وميزان القوى، خاصة على ضوء أن هناك غالبية شعبية لم تقل كلمتها، وترى نفسها غير معنية بصراعات فئوية تناقض روح الثورة وأهدافها، بينما تقرع الحلول الأمنية جرس ذاكرة الشعب، الذي عاش عقوداً تحت قمع أدوات الأنظمة الاستبدادية.
الحوار ولا شيء أخر سواه هو المدخل لحل التناقضات والخلافات، وأما الحلول الأمنية فهي وصفة بامتياز لتعميق التناقضات والخلافات وتفجيرها، وربما بوابة لشكل من أشكال حرب أهلية كاحتمال مستبعد، لكنه سيطل برأسه إذا فشل طرفا الصراع في الجلوس إلى طاولة الحوار، وتخفيف حالة الاحتقان الحاد، والإقلاع عن تخندقهما وراء الحلول (الصفرية) إما كل شيء أو لا شيء، والذهاب إلى المجهول.

وكالة أنباء  موسكو

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى