الحمائية التجارية حل اقتصادي ومبدأ أخلاقي
التاريح يثبت على الدوام أن أفضل السياسات الاقتصادية هي تلك التي تستجيب لحاجات شعوبها، وتحمي صناعييها وتجارها ومبتكريها وطبقاتها العاملة من وحوش المنافسات الخارجية غير العادلة، وبصرف النظر عن النهج الاقتصادي المعتمد والمعلن، ذلك أن الأمر يتعلق أساسا بتعهدات كمبدأ الذود عن الكرامة الوطنية.
ليس من الحكمة الحديث عن حرية التنافس في غياب مبدأ التكافؤ، وليس من المسؤولية الأخلاقية أن تترك دولة اقتصادها في وجه أعاصير العولمة ووحشيتها وتقلباتها، دون ضمانات ومساندات وامتيازات تمنح لرجالات التجارة والصناعة المحليتين، حتى وإن اقتضى الأمر بعض التراجع وإبداء التحفظات عن الاتفاقيات الدولية حول التبادل التجاري الحر في حال أصبحت المنافسات الخارجية تهدد الاقتصاد القومي.
ماذا بوسع الدولة أن تفعل في حال فقد العمال وظائفهم لصالح السلع المستوردة، وفشلت البنوك المركزية في تعزيز الإنفاق المحلي بشكل كاف لإعادة توظيف العمالة المفقودة؟ الجواب القطعي، والذي لا يتحمّل التردد، هو أن على الدولة عندئذ أن تقنن الواردات أو حتى تستغني عنها تماما، وتعمل على حماية أصحاب الأعمال والعمال المحليين عن طريق تقييد أو تنظيم التجارة مع الدول الأجنبية بغرض حماية السوق الداخلية من المنافسة الخارجية، وتشجع استهلاك المنتوجات المحلية. هذا الأمر لا يقتصر على بلدان ذات نمط اقتصادي اشتراكي كلاسيكي أو ما شابه، بل على بلدان عظمى كما أشار إليه لاري سامرز، الذي شغل سابقا منصب وزير الخزانة الأميركية وكان قد أبدى قلقه بشأن ضعف الطلب الكبير والذي يجعل من فرض التدابير الحمائية أمرا ضروريا ومنطقيا في دولة مثل الولايات المتحدة الأميركية.. فما بالك بأخرى من بلدان العالم الثالث ذات الاقتصاديات شبه الميتة. فليس الأمر إذن حالة من العجز على التأقلم، ودعوة للتقوقع يمكن ربطها مع موجات التطرف والانغلاق والكراهية التي تعبر الحدود والقارات دون حاجة إلى وقوف في طوابير الجمارك ومكاتب تحديد مقاييس الجودة.
انتشار السياسة الحمائية وتزعّم الولايات المتحدة في الفترة الأخيرة لهذه السياسة الاقتصادية، رافقه العديد من المصطلحات والتعليقات الصادرة في غالبيتها من معلقين ليس لهم باع في الشأن الاقتصادي، مثل قولهم ب” الكابوس التجاري” وغيرها، لكنّ العديد من الاقتصاديين الشهيرين في العالم يشددون على أهميتها بل وبوجوب تطبيقها. وعلى مر السنين أبدى اقتصاديون مؤيدون للحمائية بعض التوجس، لكنهم تراجعوا مثل الاقتصادي الشهير جون ماينارد كينز، الذي قال في عام 1923 إنه إذا كان هناك شيء واحد لا يمكن للتدابير الحمائية القيام به فإنه يتمثل في علاج البطالة، لكنه عاد بعد مرور 12 عامًا للتراجع والإشارة إلى وجود فوائد كثيرة للإجراءات الحمائية. وفي العصر الحديث قامت أكبر القوى الاقتصادية بتطبيق السياسة الحمائية إما بشكل علني ملموس أو خفي وغير معلن، وكان ولا يزال أبرز نماذجها الولايات المتحدة الأميركية والصين.
الأمر الذي قد يبدو فيه بعض المفارقة هو أن أغلب البلدان المتقدمة ليس اقتصاديا فقط بل حتى في مجال الحريات وحقوق الإنسان، تلجأ إلى تأييد السياسة الحمائية التي تحمل في طياتها قيما اجتماعية وإنسانية، بينما عادة ما تلجأ دول العالم الثالث إلى إتباع سياسة التجارة الحرة، وما قد تتسبب فيه هذه السياسة من انفلاتات وتجاوزات وتعديات من طرف قوى فساد وسماسرة وأصحاب امتيازات. وهو ما يذكّر بتشبيه أحدهم للعولمة المتوحشة بقوله ” ثعلب حر في قن دجاج حر”.
المشاكل التي تظهر عند غياب الحمائية التجارية عديدة ومتنوعة، ولعل من بينها التهاون في المعايير المشددة لحماية المستهلك المعمول بها في بلدان دون أخرى، خاصة فيما يتعلق بوسائل السلامة والحماية، هذا بالإضافة إلى مسألة حماية التراث الثقافي وحقوق الملكية الفكرية من هيمنة ثقافة أخرى تتسلل باسم اتفاقيات التجارة الدولية والتبادل الحر للبضائع، ولعل من بينها الإنتاجات السينمائية على سبيل المثال، وما يعنيه ذلك من تضارب في تقييم هذا المنتوج بين من يعتبره مجرد بضاعة تسويقية وبين من يعتبره رهانا ثقافيا لا يمكن المساومة عليه، فمثلا تقدم ألمانيا وبريطانيا وإسبانيا وإيطاليا مجتمعة دعما سنويا يبلغ ثلاثة مليارات يورو لصناعة أفلامها وهو ما ترفضه الولايات المتحدة ولا تقدم عليه.