الحيوان الكذوب
“قل لي ماذا كذبت وكيف كذبت وعمّن كذب … أقل لك من أنت “.
قد يستهجن الكثير هذا “الكوجيتو” الغريب ويعتبره شكلاً من أشكال الحذلقة وحب التفلسف، بل إقراراً ضمنيّاً بمشروعية الكذب الذي ترفضه وتدينه كل الشرائع والمنظومات الأخلاقية عبر التاريخ البشري .
الكائنات الأخرى التي تشاركنا هذا الكوكب أو تجاوره لا تكذب ولا تزيّف حقيقتها إلاّ فيما تمليه عليها غريزة البقاء والمقاومة، فكلّ الحيوانات التي تلجأ إلى سلاح التمويه لا تقصد من وراء ذلك إلاّ الصيد أو التخفّي عن عيون أعدائها، لكنّ الإنسان سرق منها تلك الملكات ثمّ أضاف عليها لأهداف تزيد عن حاجته وتجعل منه “حيواناً كذوباً ” …فنافس الحرباء في التلوّن عند كل سطح تحطّ فوقه وسمّى ذلك تأقلماً وذكاءً اجتماعيّاً، كما استنبط بخبث لافت تلك الطريقة الماكرة التي تنتصب فيها الحيّة على شكل عود لالتهام العصافير الباحثة عن الاستراحة وسط حرّ الصحراء … وذرف الإنسان الدموع بعد كلّ ضحية يغدر بها متمثّلاً سلوك التماسيح الخشنة في ممالك الأنهار الآسنة …ومدّ بلسانه الطويل لتحويل وجهات الحشرات الطائرة مثل ضفدع إرهابي، يتربّع في مستنقع ويحلم بالمزيد، غافل الدجاج المذعور في قنّه ومشى مزهوّاً بذيله الذي قد يأكله في لحظة جوع أو جنون كما يفعل ثعلب مخاتل، قلّد الحمائم عند برك الماء وانتهى إلى غراب حزين ونعوق، أعجب بالقطط المدجّنة وهي تحاكي صولات النمور، تنظر وتتباهى بوبرها الناعم في المرايا المكبّرة، أخفى رأسه إمّا في الرمال كنعامة حمقاء أو في قوقعته كسلحفاة خجولة، سلّى أسياده مقابل موزة أو حفنة فستق .
فعل الإنسان كلّ ذلك ـ إمّا كاذباً أو مكذوباً عليه ـ لكنّ الفصيل الأندر والأنقى من البشر هم أولئك الذين “يكذبون بصدق ” فيسرقون جذوات الشجاعة من السباع والأصالة من الجياد والشموخ والكرامة من النسور وباقي الطيور الحرّة .
أمّا في علاقة الإنسان بالنبات فلم تستهوه إلاّ مرارة الحنظل واتكاليّة الخروع وتبرّج زهور الدفلة وانحطاط الجذور المقطوعة التي تتشبّه بالتماسيح على صفحات البحيرات …..لكنّ ذهب الأشراف والنبلاء ذهبوا إلى استعارة أريج الورد ومذاق العنب وسموّ السنديان وأصالة الزيتون وفائدة الكينا وجمال اللوز وتسامح شجرة الصندل التي تعطّر حتى الفأس التي جاءت لتقطعها .
اسمحوا لي، وبعد هذه النظرة السريعة في “اليوم العالمي للكذب ” أن أضيف قاعدة ـ لا أظنّها تقبل الجدال ـ وهي ” قل لي من تقلّد وكيف تقلّد ولماذا تقلّد …أقل لك من أنت “…لأنّنا صرنا نقلّد الغرب في إحياء هذا اليوم الذي يبدأ به تاريخ عظيم في التقويم السوري والعراقي القديم منذ آلاف السنين ….لقد حاولوا محوه ليعود إلينا على شكل كذبة …ونحن نصدّقها ونعمل على إحيائها كل عام دون التعرّف إلى حقيقة المصدر والمرجع والملابسات .