الدولة الفلسطينية بين نجاحات افتراضية وصعوبات واقعية (فيودور لوكيانوف)
فيودور لوكيانوف
مما لا شك فيه أن نتائج هذا التصويت تمثل نجاحا سياسيا كبيرا لرئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس والذي بدا قبل فترة كأنه تراجع إلى الخلف وسط النمو السريع لنفوذ حركة المقاومة الإسلامية "حماس".
صحيح أن هذا الإنجاز الدبلوماسي الباهر لا يعني، عمليا، أن فلسطين اقتربت بصورة حاسمة من نيل العضوية الكاملة في هيئة الأمم المتحدة. غير أن السنة الأخيرة شهدت تقدم سلطات منطقة الحكم الذاتي الفلسطيني وبشكل ملحوظ في طريق الحصول على الاعتراف الدولي الفعلي، مستفيدة من حدوث تغييرات جذرية في الموقف العام بالمنطقة، ازدادت تحت تأثيرها من جديد في الوطن العربي شعبية فكرة دعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وفي مقدمتها حقه في إقامة دولته المستقلة على أرض وطنه.
ولكن من سخرية القدر أن نجاحات فلسطين على صعيد نيلها الاعتراف الدولي أتت في وقت لم يعد مشروع إقامة الدولة الفلسطينية في حقيقة الأمر موجودا في شكل ارتأوه في بداية التسعينات من القرن الماضي لدى إطلاق "عملية السلام" وقتذاك.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن تسوية النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين جرى اعتبارها مفتاحا لمجمل السياسات الشرق أوسطية منذ لحظة انتهاء "الحرب الباردة" في تلك المرحلة التاريخية عندما فقد تقسيم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى "مناطق النفوذ" بين المعسكرين المتواجهين الغربي والسوفيتي أهميته السابقة.
وفي هذا السياق بات جميع رؤساء الولايات المتحدة في أواخر القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة يعلنون تسوية هذا النزاع من أهم أولويات سياستهم الخارجية. وأبدى الرئيس الأمريكي بيل كلينتون خلال فترتي ولايته (1993 – 2001) نشاطا كبيرا من أجل إرغام الطرفين – الحكومة اليسارية الإسرائيلية في ذلك الحين والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات – على تقديم تنازلات متبادلة دون نجاح يذكر. ومن ثم ومع وصول إدارة جورج بوش الابن إلى سدة الحكم (2001 – 2009) جرى عقد المراهنة على إحداث تغيير في "الوسط العملياتي" بالكامل، حيث اعتبر صناع سياسة إدارته الخارجية أن إشاعة الديمقراطية في الشرق الأوسط كله ستكون بمثابة مقدمة لتحقيق التسوية المنشودة.
وكانت المقاربة كهذه تلائم عقلية اليمين الإسرائيلي لأنها رسمت هدفا كبيرا وبعيد المنال، تاركة إلى "ما بعد تحقيقه" معالجة شؤون "روتينية" لا حصر لها مثل مسائل المستوطنات والحدود ووضع الأراضي القانوني إلخ. بعبارة أخرى، تم تحويل الأنظار عن موضوع تقديم التنازلات المحددة المؤلم بالنسبة للمجتمع الإسرائيلي في سياق "عملية السلام".
غير أن حملة جورج بوش الابن لإشاعة الديمقراطية في المنطقة باءت بنتائج كارثية حيث غرقت الولايات المتحدة في "المستنقع العراقي"، بينما أصبحت "حماس" حكومة شرعية في فلسطين. وأمام هذا الإحباط حاولت إدارته في نهاية فترة ولايته الثانية إنعاش النهوج الكلاسيكية إزاء التسوية الشرق أوسطية، ولكن الوضع ازداد سوءا من جرائها أيضا.
وقد بدأ باراك أوباما أيضا فترة ولايته الرئاسية الأولى عام 2009 بإعلان نيته إعطاء نفس جديد لعملية السلام في الشرق الأوسط. وكان من المتوقع في ظل وجود شخصيات من تسعينات القرن الماضي في إدارته أن تتم العودة إلى أجندة فريق بيل كلينتون الرئاسي في شقها المتعلق بالشرق الأوسط. غير أن ما جرى على أرض الواقع اختلف كل الاختلاف عن خطي بيل كلينتون وجورج بوش الابن، حيث حاول أوباما، وفي إطار ما يسمح لرئيس أمريكي القيام به، تغيير موقف الإدارات الأمريكية المتعاقبة المألوف المتمثل في الموالاة الكاملة تجاه إسرائيل، ولكنه لم ينجح كثيرا في ذلك.
غير أن تطورات شمال إفريقيا في شتاء وربيع العام 2011، عندما بدأت بالظهور نزعة إشاعة الديمقراطية التي ابتغاها جورج بوش الابن (وإن بشكل مغاير لتصوراته تماما!) أكدت الضرورة الملحة لإعادة توجيه السياسة الأمريكية في المنطقة، إذ تبين أن التمسك الأعمى بمبدأ "إسرائيل فوق كل شيء" صار يكبل إمكانيات واشنطن أكثر فأكثر في ظل انطلاق حراك العالم العربي نحو إعادة ترتيب شؤون بيته وبناء تحالفات جديدة بداخله وتنامي أهمية هذه المنطقة عالميا.
وتؤدي مسيرة التحولات الحاصلة في العالم العربي إلى جعل سلطات دوله بغض النظر عن أشكال حكمها، تصغي إلى رأي "الشارع"، ما يعني أيضا اضطرارها إلى انتهاج سياسة خارجية مستقلة أكثر تعكس تطلعات الجماهير العربية وأمانيها.
حتى يمكن الحديث عن العودة إلى روح النهضة القومية التي سادت فترة خمسينات القرن الماضي بعد انهيار النظام الاستعماري في أشكاله القديمة. والمعروف أنه حينئذ جرى "توزيع" الدول الفتية الناهضة بين حماتها من معسكري الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، أما الآن وحتى اللاعبين الكبار لا يستطيعون فرض وصايتهم على حركة التغيير في المنطقة، ما يفسر تنامي أدوار بلدانها بالذات في إعادة هندسة سياستها.
ويثور هنا سؤال طبيعي حول الصيغة المفضلة لكيفية حل القضية الفلسطينية بالنسة لبلدان المنطقة في الظرف الحالي الذي يتصف بانقسام فلسطين بين سلطات الضفة الغربية وقطاع غزة التي تقف في مواجهة عدائية فيما بينها في صراعها على النفوذ. وقد وقع قطاع غزة تحت تأثير حركة "الإخوان المسلمين" التي يرعاها كل من أمير قطر والرئيس المصري، رغم عدم وجود تطابق كامل في وجهات النظر بينهما. فيما تسيطر حركة "فتح" على الضفة الغربية، وهي تخسر أشواطا في معركتها مع "حماس" على تمثيل جميع الفلسطينيين، خاصة و"فتح" ينظر إليها لجملة من الأسباب كمؤسسة "فاسدة" و"غير عصرية" و"قليلة الفاعلية".
بالطبع، يمكن للضفة الغربية إجراء حوار مع إسرائيل بشأن استئناف "عملية السلام" ولكن ذلك لا معنى له عمليا دون مشاركة "حماس"، بينما القوى الراديكالية التي تنتمي الحركة إليها، لا تريد حتى سماع شيء حول الاعتراف بالدولة العبرية، نظرا لانشغالها بأمور أخرى أكثر أهمية حاليا بينما يتغير الوضع حول إسرائيل بشكل سريع للغاية. لذا لا غرابة في أن عملية المصالحة بين حركتي "فتح" و"حماس" التي انطلقت تحت إشراف القاهرة منذ سنة تقريبا قد توقفت تدريجيا بهدوء.
وبمحاذاة ذلك، يزداد الوضع داخل الأردن تعقيدا وغموضا أكثر فأكثر، إذ لا تعتبر حركة "الإخوان المسلمين" المحلية والإقليمية على حد سواء المملكة الهاشمية أسمى قيمة في الدنيا. أضف إلى ذلك وجود نسبة عالية من الفلسطينيين بين سكان الأردن ما قد يمهد لمغبة التفكير لدى بعض القوى الراديكالية في إحداث تغيير جذري في هذه الدولة من النواحي السياسية والإيديولوجية. وتدل التجربة العالمية على أنه من الصعب إيقاف العمليات التقويضية بعد إطلاق عنان القوى المحركة لها. كما يستحيل تماما التنبؤ برد فعل إسرائيل المتعايشة مع الأردن سلميا الآن على أي تطور محتمل من هذا القبيل، شأنها شأن الأنظمة الملكية الأخرى المجاورة، ناهيك عن إيران الحاضرة في كل ما يجري في المنطقة.
ولا بد من القول هنا أيضا إن المجتمع الدولي المتمثل في "اللجنة الرباعية" للوسطاء الدوليين للتسوية في الشرق الأوسط وجميع أطرافها على انفراد (الولايات المتحدة، روسيا، الاتحاد الأوروبي وهيئة الأمم المتحدة) لا يملكون عمليا أي تأثير على الأوضاع الناشئة في مجرى النزاع الإسرائيلي الفلسطيني بدليل أنهم يفضلون في حالات كثيرة غض النظر عن حيثياته وتفاصيله المثيرة لتضارب التقييمات.
ويتولد انطباع أن القضية الفلسطينية قد تدخل فصلا جديدا من المأساة والسخافة بحيث سيتعاطى العالم مع "دولة" افتراضية ممثلة في هيئة الأمم المتحدة كـ "مراقب غير عضو" بينما العمليات الفعلية ستتطور في إطار آخر تماما.
صحيح أن الوضع القانوني الجديد الذي حصلت فلسطين عليه سيكون مفيدا لها عند التوجه إلى محكمة الجنايات الدولية، مثلا، لإقامة دعوى ما ضد إسرائيل. ولكن ذلك وحده لن يغير شيئا في مصير الشعب الفلسطيني من الناحية المبدئية، مع الأسف الشديد.
مجلة "روسيا في السياسة العالمية"