الدَّولة العصريّة
مع التطوّر الذي طال شَكل الدَّولة، وتنامي المَهامّ التي تقوم بها، أصبح للدَّولة العصرية مُحدِّدات لا يجوز إغفالها، ذلك أنّ الاعتبارات التي تَحكم المسؤولية القانونية والأخلاقية للقيِّمين على إدارة الدَّولة تجاه المواطنين، أصبح لها معايير قانونية مُلزِمة، وغابَت المُقاربة التي تَنظر إلى الحاكِم كأنّه مُنزَّه عن الأخطاء. كما اختفت النظرية القديمة التي كانت تعتبر أنّ المواطنين هُم رعايا للدَّولة، ويجب أن يكونوا في خدمتها، وبالتالي في خدمة سياسة الحُكَّام، بل أصبحت الدَّولة ذاتها أداة لخدمة الشعب، والسهر على راحة المواطنين.
في الدَّولة العصرية، اختفت ظواهر تلزيم المرافق العامّة لمصلحة أشخاص، بهدف استثمارها، أو تشغيلها بمردود ماليّ لمصلحة الحاكِم – كما كانت أيام نظام الاقطاع في جبل لبنان القديم – حيث كانت تُلزَّم جباية الضرائب، ورسوم الخدمات العامّة، كما مياه الينابيع والطرقات، ليستفيد منها الإقطاعي، ويدفع “الميري” أو الجزية للسلطان. الدَّولة العصرية أصبحت دستوراً وقوانين وأنظمة، لا يمكن الولوج إليها إلّا عبر مسار ديمقراطي يتأكَّد من خلاله أنّ هذه القوانين صادرة بإرادة الشعب التي تتكوّن منه الدَّولة لتتنفَّذ على الإقليم الأرضي المُحدَّد لها.
والمسار الديمقراطي في الدَّولة العصرية، لا يعني بأيّ حال من الأحوال أنّه عملية إجرائية رقمية، تعتمد على التصويت، أو على الاقتراع فقط، بل إنّها عمليّة مُعقَّدة أحياناً، فيها إجراءات مُختلِفة، يمكن أن تكون عبر “التصويت العَددي” (أي الإدلاء بالصوت في صندوقة الاقتراع)، ويُمكن أن تكون من خلال الاستفتاء الذي يأخذ الطابع الحزبي أحياناً، أو المُبايَعة كما في الأنظمة الملكية والأميرية عندما يتمّ تنصيب الملك الجديد، ويمكن أن تكون عن طريق الديمقراطية المباشرة، أي عبر المؤتمرات الشعبية، حيث يتجمَّع الناس في أماكن مُحدّدة للإدلاء برأيهم في قضيّةٍ معيّنة.
ولكنّ الغالب الذي تمَّ اعتماده على نطاقٍ واسع في الدُّول الحديثة، هو نظام الديمقراطية بالتصويت – أي تنظيم عملية الاقتراع للمواطنين – وفق قانونٍ مُحدَّد لاختيار ممثّليهم، أو لإعطاء رأيهم في قضيّة عامّة، ويُمكن للقانون الذي ينظِّم عملية الانتخاب ألّا يشمل كلّ المواطنين، أو أن يحمل بعض الشروط الشخصية لحقّ الاقتراع. وهناك مراحل مختلفة لعملية التصويت أيضاً، بحيث ينتخب المواطنون ممثّليهم في أماكن سكنهم، ومن ثُمّ ينتخب هؤلاء المُمثلون نوّاباً عنهم، والنوّاب ينتخبون رئيساً.
حتّى الأنظمة الملكية، التي تعتمد نظام المُبايعة (أي زيارة المكان المُخصَّص لإعلان الولاء) لـتأكيد مشروعية حكمها، طبَّقت نظام “التصويت” في نواحٍ محدّدة، مثل انتخاب مجالس بلدية أو اختيارية مَناطقية، كما لاختيار أعضاء مجالس شورى تُعطي مشروعية للقوانين التي يُصدِرها الملك.
أمَّا تجارب الاستيلاء على السلطة من خلال القوّة العسكرية، فقد فشِلت، ولم تَدم طويلاً، وما بقيَ منها من نماذج يتآكل تحت تأثير الوعي الشعبي. وما الانتفاضات التي حصلت في عدد من الدُّول العربية منذ نهاية العام 2010 حتّى اليوم إلّا دليلٌ على استحالة عَيش هذه الأنظمة مدّة طويلة عن طريق فرض إرادة الحاكِم بقوّة السلاح.
والنّظام الحزبي الشمولي الذي ما زال مُعتمَداً في أكثر من دولة – وخصوصاً في كوريا الشمالية، وعلى درجة مُختلفة وأقلّ أُحادية في الصين – فيكاد يفقد قدرته على الاستمرار عندما تغيب القوّة العسكرية ذات الطابع العقائدي التي تحميه. فالجيش عندهم هو بمثابة جيش الحزب. وأثبتت تجارب بعض الدُّول أنّ المشروعيّة الحزبيّة التي كرَّستها بعض الدساتير – مثل مقولات الحزب الحاكِم – كانت واهية، وغرقت بمشكلات كبيرة مع المواطنين، وتخلَّى عنها جمهورها عند أوّل مفترق.
أهمّ خصائص الدَّولة العصريّة
أ- الحُكم الجماعي: ذلك أنّ الفردية، أو الشخصانية، لا يمكن اعتمادها في إدارة الدَّولة الحديثة، ولم يَعُد شعار “ما هو لمصلحة القيصر يعني أنّه لمصلحة الدَّولة” قابلاً للحياة، لأنّ نظرية المصدر الإلَهي للسلطة التي كان يُروِّج لها بعض الأباطرة والملوك سقطت، والمبايعة المُطلقة غابت إلى غير رجعة. فالعصرية فرضت تعدُّد السلطات في الدَّولة الواحدة مهما كان نوع نظام الحُكم فيها “فالسلطة المُطلقة مفسدة مُطلقة”. لذلك فإنّ السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، هي مستوجبات عصرية، يجب أن تتوافر كحدّ أدنى في أيّ دولة، ولكلٍّ من هذه السلطات أُطر ومُحدِّدات لا يمكن أن يقوم بها شخص واحد، بل إنّها تفرض وجود أشخاص عدّة. على سبيل المثال: مجلس النوّاب (سلطة تشريعية)، ومجلس الوزراء (سلطة تنفيذية)، ومجلس القضاء الأعلى (سلطة قضائية)، وكلّ من هذه المجالس يتألَّف من مجموعة أشخاص.
ب- فصل السلطات: والحُكم الجماعي الذي يتوزَّع على مجموعة أشخاص في أُطر مجلسية، أو الذي يعتمد النظام الرئاسي، يفرض فصلاً للسلطات في الدَّولة، ومن دون هذا الفصل لا يمكن أن تستقيم الأمور في الدَّولة العصرية؛ ذلك أنّ تشابك الصلاحيات يؤدّي إلى ديكتاتورية مُقنَّعة أحياناً، وإلى فوضى ونزاعات أحياناً أُخرى، لكنّ فصل مهامّ السلطات بعضها عن البعض الآخر يفرض تعاوناً بين هذه السلطات لتسيير شؤون الدَّولة.
ج- رعاية مصالح الشعب: يُفترَض بالدَّولة العصرية، فضلاً عن نمطية الحُكم الجماعي وفصل السلطات، أن يكون لها دَور الراعي لمصالح الشعب الذي تمثّله. فالدَّولة التي لا يكون هدفها الأساسي حماية مصالح شعبها ورعايته، لا يمكن لها الاستمرارية في أيامنا هذه. بعض التجارب التي تقوم على مُرمزات دينية أو فقهية أو شخصية أو إثنية تتآكل. ولكي تُحافظ على استمراريتها في بعض الدول، تحوَّلت شيئاً فشيئاً إلى المُزايدة في الحرص على مصالح الشعب عن طريق تغذية الشوفينية، أو الشعبوية لإعلاء شأن الأُمّة، وحفظ مصالحها، لكي تستمرّ في النمطية المُعتمدة. لكنّ فرص استمرارها في الوقت الراهن ضئيلة، لكون الاعتبارات الدينية، أو العقائدية لا تكفي وحدها لفرض تولّي مقاليد السلطة. فالامتدادات الخارجية للدّولة أصبحت ضرورة حتمية لا يمكن تجاوزها، نظراً لترابط الحياة العصرية في كلّ أنحاء العالَم.
لقد تنامى دَور الدَّولة في رعاية مصالح شعبها على شاكلة واسعة، بحيث تداخل فيه الأمن مع تأمين فُرص العيش، مع توفير مقوّمات الاستمرار وفقاً لمستوجبات الحياة العصرية التي تتطلَّب الرعاية في شؤون العِلم والصحّة والانتقال، فضلاً عن الحماية الجسدية للناس، وحماية ممتلكاتهم وأموالهم، وضمان استمرارهم كجزء من المنظومة المدنية العالَمية، أي كفالة مكانة مواطنيّتهم بين أُمم الأرض.
د – توفير ظروف إنتاج المواطَنة: من أبرز شروط نجاح الدَّولة العصرية، إنتاج مسار واضح لتحقيق المواطَنة بين أبناء الشعب الذي ينتمي إلى الدَّولة، واحترام حقوق المُقيمين على أراضي الدَّولة من المواطنين الأجانب، وفقاً للمحدّدات التي نصَّت عليها العهود الدَّولية التي ترعى حقوق الإنسان المُختلفة.
إنّ انتشار التعصّب الديني أو العرقي أو القبلي لا يعني، بأيّ حال من الأحوال، أنّ نموذج التفرقة، أو التمييز بين الشعوب هو القاعدة الثابتة. على العكس من ذلك، فإنّ تنامي هذه الظواهر، يدلُّ على ضعف الدَّولة. واذا استعرضنا ظروف بعض الدُّول التي تنتشرُ فيها ظواهر التعصُّب – ومنها الغريب عن العصر – نرى أنّ هذه الدُّول تُعاني من أنظمة لم تعتمد قواعد حديثة في نمطية الحُكم، بل غلَّبت المصالح الشخصية، أو الفئوية، على عملها؛ وبالتالي فإنّها فشلت في إنتاج مواطَنة صحيحة يتحلَّى بها أبناء الشعب كافّة، بصرف النَّظر عن انتمائهم الدّيني أو القومي أو العرقي أو السياسي. ويُمكن إعطاء مثال على هذه المُقاربة في حالة سوريا والعراق وغيرهما، حيث كان الولاء للشخص أو للحزب أو للطائفة هو القاعدة.
لا يُمكن بناء دولة عصريّة من دون الأخذ بالاعتبار التطوّر الميثولوجي، أو ما يمكن تسميته “السوسيومودرنية” التي تعتمد المعايير العالمية الموحَّدة للحقوق السياسية والمدنية والشخصية للإنسان، بعيداً من التمايُز الحزبي أو الوطني أو الديني.
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)