الذكاء الاصطناعي: آفاق وتحديات في عالم التحريك

يُعيد الذكاء الاصطناعي رسم ملامح صناعة الرسوم المتحركة بين سرعة الإنتاج وتهديد الإبداع البشري، فهل يصبح حليفاً للفنانين أم بديلاً منهم؟
بعد مرور ثلاثة عقود على إطلاق فيلم «توي ستوري» عام 1995، وهو أول فيلم رسوم متحركة ثلاثي الأبعاد في التاريخ، تدخل صناعة الأنيميشن اليوم مرحلة جديدة مع انخراط الذكاء الاصطناعي في عمليات الإنتاج. هذه الثورة التقنية تعد بسرعةٍ أكبر وتكلفةٍ أقل، ولكنها تثير في المقابل مخاوف المبدعين من أن تتحول إلى تهديد مباشر لجوهر الفن وخصوصية الإبداع البشري.
«أنيماغ»: رائد التحول الجديد
يُعدّ استوديو «أنيماغ» الفرنسي، الذي تأسس عام 2022، من أوائل الجهات التي تبنّت الذكاء الاصطناعي في إنتاج الرسوم المتحركة. هذا الاستوديو المعروف بإنتاجه لمسلسل الأطفال «بوكويو» حصل أخيراً على حقوق شخصية «النحلة مايا» (المعروفة عربياً باسم «زينة» في مسلسل «زينة ونحول»)، ليعيد تقديمها باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي.
يقول مؤسس الاستديو ومديره التنفيذي سيكست دو فوبلان إن الهدف ليس استبدال الفنانين، بل تسخير التقنية لخدمتهم، موضحاً أن فريقه طوّر نموذجاً ذكياً قادراً على توليد صور متحركة انطلاقاً من محفزات (prompts) نصية أو رسومات أولية، مع إمكانية تعديلها وتحسينها تلقائياً.
ويشير فوبلان إلى أن النموذج استوعب أكثر من 300 حلقة من مسلسل «بوكويو»، ما مكّنه من إنتاج مشاهد تحاكي بدقة الأسلوب البصري الأصلي للعمل، مع التزام صارم بحقوق الملكية الفكرية. ويؤكد أن النموذج مدرّب حصراً على قواعد بيانات تخص الاستوديو نفسه، لتجنّب استخدام أي مواد خارجية أو منسوخة.
جدل الملكية الفكرية: بين الإلهام والانتهاك
رغم هذه الاحتياطات، يبقى ملف حقوق الملكية الفكرية أحد أبرز التحديات أمام انتشار أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي. فقد وُجهت اتهامات إلى نماذج مثل «سورا» من «أوبن إيه آي» و«فيو» من «غوغل ديب مايند» باستخدام بيانات وصور مستوحاة من أعمال شهيرة مثل أفلام استوديو «غيبلي» وأسلوب المخرج الياباني هاياو ميازاكي، من دون الحصول على إذن مسبق، ما أثار جدلاً قانونياً وأخلاقياً واسعاً.
ويرى فوبلان أن الطريق نحو دمجٍ مسؤول للذكاء الاصطناعي في صناعة الرسوم المتحركة يجب أن يمر عبر الشفافية وحماية حقوق الفنانين، مؤكداً أن التقنية «لن تكون ذات قيمة إذا لم تُصمَّم لحماية الإبداع لا تقليده».
مخاوف على الوظائف والإبداع
لم يلقَ دخول الذكاء الاصطناعي إلى ميدان أفلام التحريك ترحيباً واسعاً. فقد أثار إعلان تعاون «أوبن إيه آي» مع شركة إنتاج بريطانية تابعة لـ«فدريشن ستوديوز» الفرنسية لإنتاج فيلم طويل باستخدام الذكاء الاصطناعي، موجة اعتراضات من نقابات ومنظمات الفنانين في فرنسا. وأكدت هذه الجهات في بيان أن «الأدوات التقنية لا يمكن أن تحل محل حساسية الفنانين ورؤيتهم ومساهمتهم الإنسانية».
الفنان والرسّام الفرنسي جان جاك لوني، الرئيس المشارك لجمعية مصممي الرسوم المتحركة الفرنسية (AGrAF)، حذّر من أن الذكاء الاصطناعي قد يشكل تهديداً حقيقياً للمسلسلات التلفزيونية ذات البُنى الموحدة والقابلة للتصدير، مثل «بوكويو» الذي ينتمي أصلاً إلى إسبانيا.
ويقول لوني: «يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُنشئ حزمة إبداعية أساسية لأي مشروع أنيميشن، ما يجعل عمل الفنانين التقليديين هو المستهدف الأول». ويضيف أن هذه الأدوات تنظف وتحسّن الأداء البصري، وهو ما يغري السوق الباحثة دائماً عن الإنتاج الأسرع والأرخص، لكن الثمن — في رأيه — سيكون خسارة آلاف الوظائف في قطاع يشغّل ما بين 10 إلى 12 ألف فنان في فرنسا وحدها.
بين التقنية والإحساس الإنساني
من الواضح أن الذكاء الاصطناعي يعيد رسم حدود الإبداع في عالم الرسوم المتحركة. فهو يمنح أدوات قوية تتيح للفرق الصغيرة منافسة الكبار، ولكنه يضع في المقابل قيم الفن والابتكار أمام اختبار وجودي: هل يمكن للآلة أن تفهم المشاعر؟ وهل يُقاس الإبداع بالكفاءة فقط؟
الإجابة عن هذه الأسئلة ستحدد مستقبل صناعةٍ دائماً ما شكّلت جسراً بين التقنية والخيال الإنساني. فبين من يراها فرصةً لتوسيع آفاق الإبداع، ومن يخشاها كتهديد للهوية الفنية، تبقى الحقيقة أن الذكاء الاصطناعي أصبح لاعباً أساسياً في هذا المشهد، سواء أحبّه الفنانون أم لا.
صحيفة الأخبار اللبنانية