الذكرى الستين لاستشهاد البحار السوري جول جمال: 1 ــ تأميم قناة السويس

غالبا ما تحدد الجغرافيا ملامح الصراع في التاريخ..

في المنطقة العربية، كان هذا العامل من أخطر العوامل التي أثارت الأطماع فيها، فزارها الكثير من الغزاة يدمرون ويحرقون ويقتلون، ثم يذهبون وتبقى تبقى الأرض في مكانها ويبقى الشعب ويتأصل الوطن مع ناسه ! في الجهة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، تبدو المشكلة متأصلة في التاريخ، ففي هذه البقعة من الأرض العربية يمكن التواصل مع القارات الثلاث، وقد شكل الامتداد الجغرافي بين سورية الطبيعية ووادي النيل ميزة تثير شهية الغزاة، وكان الاستهداف يتجه غالبا إلى سورية ومصر وفلسطين ..

ترتبط قارة آسيا بالقارة الأفريقية العجوز عبر برزخ السويس، وكان البحارة يغامرون في قطع آلاف الكيلومترات عبر رأس الرجاء الصالح للوصول من البحر المتوسط إلى الخليج العربي وجنوب شرقي آسيا، لكن الحدث الذي وقع في منتصف القرن التاسع عشر غيّر الجغرافيا، فأعطى الغزاة بعدا آخر للأطماع ، ودفع العالم إلى التعامل مع المنطقة كأهم المناطق الإستراتيجية في العالم ..

ما الذي حصل في ذلك العام من منتصف القرن التاسع عشر؟

تأسست ((الشركة العالمية لقناة السويس البحرية)) بموجب فرمان الامتياز المؤرخ في الثلاثين من تشرين الثاني عام 1854، ثم تأيّد هذا الفرمان بعقد الامتياز المؤرّخ في الخامس من كانون الثاني وجاء فيه:

((مدة الامتياز تسع وتسعون سنة تبتدئ من التاريخ الذي تفتتح فيه قناة البحرين)).

افتتحت قناة السويس في عهد اسماعيل باشا عام 1869، وكانت واحدة من أهم ممرات العالم البحرية التي تصل البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر ، لذلك جاء في الفرمان أنها ((قناة البحرين))..

عاش المصريون تحت سطوة البريطانيين زمنا طويلا، ومع النهوض الوطني المقاوم للاستعمار، وقيام ثورة 23 تموز في مصر عام 1952 بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر شهد المد الوطني والقومي موجة عارمة في صفوف الشعب العربي من المحيط إلى الخليج، وكان ذلك صدفة لافتة أثارت اهتمام الغرب والعالم وجعلت العرب في الواجهة، ودفعت رئيس مصر الشاب إلى مصاف زعماء العالم المعروفين ..

وفي برنامجه السياسي الذي أسس لزعامته الوطنية والعربية واجه الرئيس عبد الناصر قضية قناة السويس بإحساس وطني عارم، فشغلته ودفعته لإصدار قرار تاريخي، اعتبره الغرب أحد أخطر أخطاء عبد الناصر، فبعد مشاورات متعددة وخلال افتتاحه مؤتمر الاسكندرية الشعبى مساء السادس والعشرين من تموز عام 1956، أعلن عبد الناصر تأميم قناة السويس وعودتها إلى شعب مصر .. وقال ((هذه القناة ملك لمصر فهى شركة مساهمة مصرية، حفرت بواسطة المصريين، 120 ألف مصري ماتوا أثاء حفرها. هذه الشركة التي مقرها باريس مغتصبة مثل دلسبس ومثل بلاك عندما جاء. سنبني السد العالى وسنحصل على حقوقنا، سنبنيه كما نريد، وسنصمم على هذا، 35 مليون جنيه كل عام تأخذها شركة القناة، فلنأخذها نحن)).

كانت هذه العبارات مفتاحا لفهم الظروف التي تعيشها مصر مع اندفاعة رئيسها عبد الناصر، فاشتعل الغرب في غضب واسع ضده وضد مصر. لم يكن الغرب الاستعماري يتوقع أن يتلقى هذه الصفعة في أشد الأمكنة التي يسيطر عليها حساسية من رئيس شاب، وراحت تصريحات زعماء بريطانيا وفرنسا تهدد وتتوعد مصر وجمال عبد الناصر، وبين تأميم قناة السويس ولحظة الشروع بالعدوان الثلاثي على مصر أقل من ثلاثة أشهر، وكان الاتفاق بين الدول الثلاث المشاركة بالعدوان أي بريطانيا وفرنسا وإسرائيل يتضمن بدء إسرائيل بمهاجمة سيناء ثم تقوم بريطانيا وفرنسا بإنزال قواتهما في منطقة قناة السويس ومحاصرة الجيش المصري، وهي خطة نقلت الحرب على مصر إلى متن ((الحرب الباردة)) لتثير الخوف الدولي من سخونة هذه الحرب.

كان القرار الوطني المصري واضحا جليا، عنوانه مقاومة العدوان، وعلى الفور تشكلت المقاومة المصرية من قوات الفدائيين في الجيش المصري بالاشتراك مع الشعب، وكانت الساحة الرئيسية للمواجهة هي في بور سعيد ..

في تلك الأيام غنى المطرب الجماهيري عبد الحليم حافظ لشعب مصر الذي يواجه العدوان الثلاثي ببسالة وتضحية وتناقل العرب جميعا أغنية (حكاية شعب) التي تجسد كفاح المصريين من أول الاستعمار الأنجليزي وحتي العدوان الثلاثي وما بعده..

غنى العرب هذه الأغنية، لأن العرب وفي لحظة نادة وقفوا إلى جانب مصر، وفرضوا على العالم هيبة الانتماء الواحد إلى أمة !

ارتفعت الأصوات في المجتمع الدولي تطالب بوقف العدوان على مصر، وفي مطلع شهر كانون الثاني عام 1956 وافقت الجمعية العامة، بأغلبية كبيرة، على قرار تقدمت به الولايات المتحدة يقضى بايقاف اطلاق النار، ولكن ذلك لم يحصل..

استمر العدوان وكانت مصر تقاومه بعنفوان وصبر رغم اشتداد ضرباته الجوية والبحرية والبرية .. ومع تصاعد حدة العدوان على مصر، وتداخل الظروف الدولية والاقليمية ظهر موقف الاتحاد السوفييتي ليغير اتجاهات الريح، فوجه السوفييت إنذارا معروفا للدول التي تشن الهجوم على مصر عرف بانذار بولغانن، ولم يكن أمام بريطانيا وفرنسا وإسرائيل إلى إلا وقف العدوان ..

انسحبب القوات البريطانية والفرنسية من بور سعيد في 23 ديسمبر عام 1956، ولذلك تحتفل محافظة بورسعيد في ذكرى هذا اليوم من كل عام بعيد جلاء قوات العدوان كما تسميها..

أيضا انسحبت إسرائيل متأخرةً من سيناء في أوائل عام 1957 م، ثم ما لبثت أن انسحبت من قطاع غزة ووضعت قوات طوارئ دولية على الحدود المشتركة بين مصر وإسرائيل.

سجلت مقاومة شعب مصر ملحمة تاريخية لمختلف وحدات الجيش المصري ، وكانت القوات البحرية المصرية أهمها، فالبحرية المصرية مسؤولة عن حماية شواطئ مصر الواسعة التي تطل من خلالها على البحرين الأبيض المتوسط والأحمر وتمتد هذه الشواطئ على شريط ساحلي يزيد عن ألفي كيلومتر في الشمال والشرق!

خاض سلاح البحرية معارك شرسة، ولأنها لم تكن متكافئة نظرة لقوة البحرية المهاجمة، فإن البحارة سجلوا تضحيات تاريخية لاتنسى، وبالتالي رسخت حرب عام 1956 تقاليد تاريخية من الفداء والبطولة في تاريخ شعب مصر وجيشه..

ومن المعارك الشهيرة تلك التي وقعت في 31 تشرين الأول 1956 وخاضت فيها الفرقاطة المصرية “دمياط” معركة صعبة مع ثلاث سفن حربية بريطانية مكونة من مدمرتان وطراد، ونقرأ في سجلات البحرية المصرية أنه كان لثبات قائد الفرقاطة المصرية ورفضه التسليم كبير الأثر في نفوس أعداءه، واستمر في قصف السفن المعادية دون هوادة إلى أن أصيبت الفرقاطة “دمياط” وتعطل مدفعها الوحيد، فما كان من قائدها إلا أن توجه بالسرعة الكاملة محاولا الاصطدام بالطراد البريطاني ليغرقا معاً مؤثراً الموت على التسليم، فصب العدو عليه نيران جميع بطاريات مدفعيته دفعه واحده حتى مالت دمياط وبدأت في الغرق، وبقي القائد المصري وبرفقته ضابطه الأول يشرفان على نزول جميع أفراد طاقمه ويأمرونهم بالابتعاد عن الحطام وأبيا إلا أن يغرقا مع سفينتهما.

ومن المعارك البحرية تلك المعركة التي سقط فيها بحار سوري اسمه (( جول جمال)) كان يتلقى دورة تدريبية في مصر لصالح البحرية السورية، وعندما وقع العدوان الثلاثي أبى هذا البحار العودة إلى سورية، واستمر مع أشقائه المصريين في صد العدوان إلى أن اختلط دمه السوري مع دم البحارة المصريين في واحدة من أخطر المعارك البحرية في التاريخ الحديث سقطت إثرها المدمرة الفرنسية جان بار في البحر كما تقول المصادر المصرية والسورية ..

(( يتبع الجزء الثاني ))

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى