الرئيس هواري بومدين في ذكرى وفاته الثماني والثلاثين
حوار مع الدكتور عثمان سعدي
سفير الجزائر الأسبق في بغداد ودمشق
رغم مرور 38 سنة على رحيله، لا تزال حياة الزعيم الراحل هواري بومدين مليئة بالأسرار والمفاجآت.. فعلاقاته المتشعبة مع الزعماء العرب آنذاك وعلاقاته مع رفاق السلاح من الوزراء في الجزائر المستقلة وحياته الخاصة وغيرها من المواضيع التي لا تزال محل بحث من طرف المؤرخين والإعلاميين، وسأسلط الضوء على زاوية مهمة من حياة الرئيس الراحل وهي المكتبة التي لا تزال مختفية ومواقفه البطولية من مختلف الحروب والنزاعات العربية.
تغطيات:
س هل من جديد حول مكتبة الرئيس الراحل هواري بومدين؟ وهل ردت زوجته أنيسة على مطالبتك لها بتسليم المكتبة؟
ج المكتبة لا تزال عند زوجة الرئيس السيدة أنيسة وتضم قرابة خمسة آلاف كتاب مجلد اقتنيتها للرئيس من مختلف الدول العربية ومنها النسخ الأصلية لأمهات الكتب.
قرر بومدين إنشاء مكتبة شخصية له ولكنه رفض أن تدفع وزارة المالية ثمن الكتب المنتقاة وقرر دفعها من جيبه. استقبلني الرئيس الراحل لمدة ساعتين في مكتبه، وكنت وقتها نائبا لسفيرنا بالقاهرة، فطلب مني أن انتقي له الكتب من القاهرة ومن بعض الدول العربية وان أقدم له ملخصات لأحدث الإصدارات. كما طلب مني زيارته كلما عدت إلى الجزائر وأوصى مدير التشريفات بذلك.
عدت من القاهرة وجلدت ثلاثة نماذج وعندما التقيت الرئيس اختار التجليد وكلفني باعتماد التجليد الذي يراه مناسبا. عندها كلفت مكتبة الخانجي بالقاهرة بجمع الكتب وشرائها من تركات المتوفين مثل “الأغاني لأبي فرج الأصفهاني” حيث حصلت على النسخة الأصلية لدار الكتب وكتاب “صبح الأعشى للقلقشندى” الذي طبعت أجزاؤه الأربعة عشر بين 1913 و1918 .
أرسلت الكتب المجلدة إلى الجزائر وكنت قد اتفقت مع وزير المالية آنذاك الشريف بلقاسم على تسديد فواتير كتب الرئيس .
وبعدها بأيام قليلة وصلني طلب من الخارجية يقضي بضرورة المجيئ للجزائر، وبمجرد وصولي بلغني أن الرئيس يريد مقابلتي وهو ما حصل. عاتبني على تحويل فواتير الكتب إلى وزارة المالية وقال إنها كتبه الشخصية وقد دفع قيمتها من ماله الخاص “لا أريد أن يدفع ثمنها غيري، إذا حاسبني الشعب لا يجدني املك إلا مكتبتي .. سدد قيمة الكتب من مرتبك، قدم لي الفاتورة ادفعها لك بيني وبينك من مرتبي”، وعندما قلت له الكتب غالبية لا يكفي مرتبي ومرتبك لشرائها، قال لي لا داعي للتأسيس أسحب طلبي” .
فقلت له “هذه كتب وليست يختا أو دارة، كتب تقرؤها في وقت فراغك ومن حقك أن تؤسسها لك الدولة إنها مثل القلم أو الورق في مكتبك. وبعد عمر طويل ستقدم هدية إلى المكتبة الوطنية وعليها اسمك ليقرأها المواطنون كتذكار جميل”.
س تقول إن الرئيس الراحل دفع قيمة الكتب من مرتبه.. ألا يحق لزوجته اعتبارها إرثا عائليا والاحتفاظ بها؟
ج أوجه من هذا المنبر نداء إلى زوجة الراحل بومدين وأطالبها بتسليم المكتبة التي تضم حوالي خمسة آلاف كتاب مجلد من أمهات الكتب لتوضع في ركن بالمكتبة الوطنية يحمل اسمه.
هذه الكتب تمكنت من جلبها من القاهرة وبغداد ودمشق، حيث كنت اطلب من دور النشر ما اختار من عناوين وأرفق الطلب بملاحظة أن الكتب من اجل مكتبة الرئيس بومدين السخصية. فيرفض الناشرون إرسال الفواتير ويعتبرونها هدية للرئيس الراحل، وكنت قد اتفقت مع مدير التشريفات على أن يرسل رسالة شكر للناشر موقعة من طرف الرئيس. أما الكتب التي نشرها آصاحبها فأشتريها ويسدد لي قيمتها الرئيس من مرتبه وهي قليلة .
وتشاء الأقدار أن يتوفى الرئيس من دون أن يسدد آخر فاتورة لكتب من سوريا كنت قد دفعت ثمنها من مرتبي على أن يدفع لي بعدها كما كنا قد اتفقنا، وقررت أن احتفظ بالفاتورة للذكرى وقيمتها 594 ليرة وهي قيمة تجليد كتاب بهجة المجالس وأجزاء من الأغاني وتاريخ الأدب العربي لبروكلمن .
س كيف تم تعيينك في الخارجية الجزائرية؟ وما دور علاقتك ببومدين أيام الدراسة في التعيين؟
ج عرفت بومدين في مدينة قسنطينة عام 1949 عندما كان طالبا في مدرسة الكتانية، كنت وقتها طالبا في معهد عبد الحميد بن باديس، وكنا نلتقي في مكتب حزب الشعب الجزائري “انتصار الحريات الديمقراطية”.
انتقل بومدين إلى القاهرة في الخمسينيات ليلتحق بالأزهر وأنا كنت في جامعة القاهرة وكنا نلتقي في “رابطة الطلبة الجزائريين”. وعندما أصبح رئيسا سافرت معه إلى يوغسلافيا 1966، وكنت وقتها في وزارة الخارجية “قسم الاقتصاد”.
التقينا هناك ثم انقطع التواصل بيننا إلى غاية سنة 1970 وبالضبط خلال تنظيم مؤتمر المنظمة العربية للتنمية الصناعية على مستوى العالم العربي، وكنت عضوا فيها حيث نظمنا ندوة في “نادي الصنوبر بالجزائر”. وبعد اختتام جلسة منها خرجت لأتمشى على كورنيش نادي الصنوبر، وهناك شاهدته رفقة رابح بيطاط، ناداني ثم أمسك يدي ومشينا قليلا ثم قال انه يجب أن نلتقي، فأخبرته أن مدير البروتوكول لا يريد أن أراه، وكان آنذاك مولود حمروش نائب مدير البروتوكول.
نادى الرئيس حمروش وطلب منه ترتيب موعد وكنت مقيما آنذاك في فندق السفير اليوم (لاليتي سابقا).
س وماذا أثمر لقاؤك بالرئيس هذه المرة؟
ج قابلته في نفس السنة وقال لي أريد رؤيتك عدة مرات سنويا، وستعين سفيرا. وكنت وقتها نائبا لسفيرنا في القاهرة بوعلام بالسايح الذي عملت معه بعد الأخضر الإبراهيمي الذي غادر إلى لندن. وقال يجب أن أراك كل سنة لتعطيني فكرة عن العالم العربي لأني لا أعتمد على السفراء الحاليين “أنت درست بالقاهرة وعشت بها وتعرف العالم العربي”.
وعندما توفي جمال عبد الناصر حضر لجنازته كنت قائما بالأعمال في السفارة. ثم عينني بعدها في 1971 سفيرا في بغداد ثم في سوريا سنة 1974 .
س عندما كنت سفيرا في بغداد.. كيف كانت علاقة بومدين مع صدام حسين؟
ج صدام حسين كان الزعيم على مستوى العالم العربي أنذاك رفقة جمال عبد الناصر في مصر وهواري بومدين في الجزائر، وكان الديبلوماسيون الغربيون يعتبرون مفاتيح خريطة الوطن العربي هي الجزائر ومصر والعراق.
رتبت لصدام زيارة الجزائر في يونيو 1974 كان أحمد حسن البكر رئيسا للعراق وصدام حسين نائبا له وكان الماسك الحقيقي بزمام الأمور في العراق، استقبل من بومدين كرئيس دولة نزل في دارة بنادي الصنوبر وطلب السباحة في البحر فخصص له يخت الرئاسة وسبح حوالي كيلومترين ، وقال لي “أقضي أجازتي بالعراق، لكن البلد الوحيد الذي أتوق أن أقضي به بعض أجازاتي هي الجزائر الرائعة”، وقرر إرسال أولاده لقضاء فصل الصيف بالجزائر بعد أن انبهر بطبيعتها وقال له بومدين “دارة وسيارة تحت تصرف العائلة”. العلاقة صارت جيدة جدا بينهما وتحولت مع مرور الوقت إلى صداقة.
وعقد سنة 1975 مؤتمر الأوبيك بالجزائر وشارك به شاه إيران وصدام حيث جمعهما بومدين وحلت المشاكل بين العراق وإيران، فتخلى الشاه عن الأكراد بالعراق فانهارت حركتهم وهذا يحسب لبومدين.
ومن المواضيع الهامة أنه خلال زيارة الرئيس بومدين للولايات المتحدة الأمريكية سنة 1973 حيث استقبله الرئيس نيكسون الذي أثار معه موضوع العلاقة بين أمريكا والعرب، كان بومدين يمثل العرب كرئيس للقمة العربية التي جرت في الجزائر، ومما قاله له نيكسون “أن المشكل مع العرب هو مسألة إسرائيل، ودعاه إلى تخطي الموضوع من أجل علاقة جيدة”، فرد عليه بومدين قائلا “أنتم لم تكتفوا بإسرائيل واحدة تريدون خلق إسرائيل ثانية في شمال العراق”، فرد عليه نيكسون باستغراب “إسرائيل ثانية” و-طبعا بومدين كان يقصد الأكراد- ومن جهتي كسفير بلغت الرسالة والحوار الذي دار بينهما حول الموضوع فقال لي الرئيس العراقي البكر وصدام حسين “بومدين أول رئيس عربي يثير القضية الانفصالية الكردية بهذا الأسلوب مع رئيس دولة كبرى هي أمريكا”.
س بومدين لم يكن متفقا مع سياسة حافظ الأسد خاصة ما تعلق بنزاعاته مع دول الجوار.. كيف تعاملت كسفير في دمشق مع العلاقة المتوترة؟
ج كان الرئيس بومدين يعطيني دوما الإذن بتبليغ رسالة باسمه إلى الرئيس حافظ الأسد في أي موضوع أراه مناسبا، مثلا عندما وقعت أزمة “نهر الفرات” بين العراق وسوريا، وكان السوريون يملأون سد الطبقة مما أدى لإفراغ نهر الفرات المار للعراق من جلّ مياهه، وقعت أزمة بين البلدين، طلبت مقابلة مع الرئيس السوري لنقل رسالة له من الرئيس بومدين، ونقلت له رسالة فحواها ضرورة حل المشكل. وتم إيجاد حل للمشكل بفضل الأتراك الذين اكتشفوا مشكل في سد (كيبان) وهو أكبر سد بالمنطقة ، فقد ظهرت به تشققات والشركة الأمريكية التي بنته طالبت بتفريغ السد لإصلاحه، فاضطروا لإطلاق المياه في الفرات وبعدها امتلأ “سد الطبقة”بسوريا في أيام، فاحتج السوريون على تركيا، حينها طلب السفير التركي مقابلتي وقال لي “لم أفهم كيف تحتجون كعرب على إرسال المياه للفرات الاحتجاج يكون بحجب المياه”، فقلت له “لأنكم أفسدتم خطة السوريين في مضايقة العراق بمياه الفرات ، وأنهيتم المشكلة أصلا”.
واذكر أيضا موضوع حشد حافظ الأسد الجيش السوري على حدود العراق وكان الهدف غزوه ، فطلبت لقاء الرئيس السوري وقلت له “الرئيس بومدين يقول لك عيب ما تدبرون من حرب” ، فقال “الرفاق في القيادة القومية قالوا لي يجب أن نتوقف عن استيراد السلاح من الاتحاد السوفياتي وأمامنا خزائن بغداد”، عندها قلت له “أمامكم ثلاثة موانع هي بادية الشام وصحراؤها ونهر الفرات وهو مانع مائي، ثم جيش العراق، الرئيس بومدين يقول لك إذا وقع الصدام بينكما ستكون بادية الشام مقبرة للجيش السوري والعراقي”، ونتيجة لذلك حل المشكل وانسحبت القوات السورية من الحدود العراقية.
س لاتزال رواية تسميم الرئيس بومدين بتخطيط من صدام متداولة رغم نفي الشهود وزوجته؟
ج هناك شخص واحد حاول إيقاظ الفتنة بين الجزائر والعراق وهو وزير الدفاع السوري مصطفى طلاس، فزعم أنه توفي بكاميرا بإشعاع سلطت عليه في بغداد وهو اتهام تافه…
بعد وفاة عبد الناصر بقي للمخابرات الأمريكية والإسرائيلية زعيمان هما صدام حسين وبومدين، وطبعا هواري بومدين كان البارز في ذلك الوقت، كقائد عربي. أما مرض بومدين وفقا للأطباء الروس الذين فحصوه فهو إما بفاعل كيماوي أو طبيعي وهو خلل في الكرويات الدموية البيضاء والحمراء، وليس مستبعدا أن يكون قد سمم ولكن بطريقة متطورة جدا يصعب كشفها.
س العلاقات المصرية في عهد الرئيس بن بلة كانت أكثر متانة وانسجاما ثم فرض الرئيس بومدين نفسه بعد الانقلاب ورمم العلاقة من جديد؟
ج المصريون تصوروا أن خط الدولة الجزائرية سيتغير مع بومدين لكنهم اكتشفوا أن خط الجزائر السياسي لم يتغير، وهو الأمر نفسه الذي وقع مع كاسترو الذي كان ساخطا على الجزائر بعد الانقلاب في 1965، لكنه عندما لاحظ أن خط الجزائر لم يتغير مع الاشتراكية في حكم بومدين عاد وزار الجزائر وكون علاقات جيدة مع بومدين.
وفي 1967 عندما دمر الإسرائيليون الطيران المصري وهو جاثم على الأرض، هاتف عبد الناصر الرئيس بومدين وقال له “لم تبق لي طائرة واحدة”، فرد بومدين “أرسل طيارين ليأخذوا ما نملك من طائرات، لأن الطيارين المصريين يعرفون الأجواء المصرية أفضل” وحضر الطيارون المصريون في طائرة أنطونوف وأخذوا الطائرات الجزائرية. وهنا رصد الأمريكان المكالمة وطلب السفير الأمريكي لقاء بومدين، فقال له “الحكومة الأمريكية لا تنظر بعين الارتياح لإرسال طائرات عسكرية جزائرية لعبد الناصر”. فأجاب الرئيس “أولا هذا تدخل في شؤوننا كعرب انتهى الزمن الذي كانت فيه أمريكا تعطي الأوامر والشعوب الصغيرة تطيع، ثانيا: انتهت المقابلة يا سعادة السفير”، ووقف وخرج قائلا لمدير البروتوكول “رافق سعادة السفير إلى سيارته”، وهي أقصر مقابلة بين رئيس دولة وسفير حسب ما يقال… وأرسل بومدين طائرات ميغ الجزائرية وهي التي شاركت في بقايا الحرب لدرجة أن الأشقاء في مصر قاموا بصباغة الطائرات ونسوا واحدة طارت بالعلم الجزائري، وحينها صرح موشي ديان الاسرائيلي وقال “الطائرات الجزائرية هي من تقصف إسرائيل”. وكان بومدين قد أرسل قوات لمصر رابطت على شاطئ قناة السويس وقامت ببطولات شهد لها الإسرائيليون أنفسهم وهذا يبرهم على أن بومدين كان يؤمن بأن جيش الجزائر ملك لا للجزائر فقط وإنما للأمة العربية.
س بومدين القائل “نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة” كان قد اتخذ موقفا سلبيا من ياسر عرفات في مرحلة ما.. هل لك أن تذكرنا بتفاصيل القضية؟
ج بومدين يقول “قضية فلسطين هي الأسمنت الذي يربط دولة الجزائر بالدول العربية وهي المفجر الذي ينسفها”، من ضمن المواقف التي جمعتني بالراحل بومدين عندما كنت سفيرا بسوريا جاءني أبو جهاد رحمه الله للسفارة وقال لي “أن العلاقة سيئة بيننا وبين بومدين، نتيجة تصريح أدلى به ياسر عرفات فهم منه بومدين أنه دعم للمغرب في موضوع الصحراء الغربية، وقطع العلاقات مع منظمة التحرير، قصدنا الجميع ولم يحل المشكل، ولمعرفتي بالعلاقة الوثقى التي تربط بينك وبين بومدين أطلب منك مساعدتنا على حل سوء الفهم الذي حدث بيننا وبين بومدين “، وقدم لي ورقة يطلب مني الوساطة، طلبت لقاء الرئيس وقبل الدخول لمكتبه قال لي المستشار السياسي للرئيس آنذاك إسماعيل حمداني أطال الله عمره “لا تكلمه في الموضوع، لأنه سيطردك من مكتبه ، فهو ساخط جدا على الفلسطينين “.
قدمت له عرضا لكل ما طلب مني، ثم قلت له “ما هو المشكل مع الفلسطينيين؟”، فرد “لا أريد الحديث فيه فليذهبوا إلى الحسن الثاني يعطيهم، ولنغلق النقاش في الموضوع″.
فقلت له “سيدي الرئيس في إمكانك أن تطردني من مكتبك وفي إمكانك أن تدخلني السجن بمكالمة هاتفية أو تعزلني من منصبي كسفير، لكن ليس في إمكانك أبدا أن تحرمني من قول كلمة الحق، إذا اقتنعت بها فاعمل بها وإذا لم تقتنع بها فارمها في سلة المهملات بجانبك، فقط دعني أتكلم”، فقال لي وهو يبتسم “تكلم يا شاوي بن شاوي”، (وقبائل الشاوية بأوراس اللمامشة مشهورون بعنادهم وصلابتهم)… قلت له “أن يهبّ الزعماء والكثير من الناس بمن فيهم السادات المشبوه لمساعدة الفلسطينيين المحاصرين في لبنان، وأن يقف الرئيس بومدين قائد جيش التحرير الوطني ـــ ولا يهمني رئيس الدولة ـــ متفرجا فهذا سيسجله عليه التاريخ والتاريخ لا يرحم”.
لم يجبني وحمل الهاتف وقال للدكتور أمير مدير ديوان الرئاسة “ترجع العلاقات الفلسطينية طبيعية كما كانت”، وهاتف عبد الحميد الأطرش في وزارة الدفاع وقال له نفس الكلام، ثم قال لي “كيف نرسل المساعدات؟”، قلت نرسلها إلى بنغازي أو مرسى مطروح، حيث يوجد فلسطينيون بزوارق بإمكانهم إيصالها تسللا ، فتساءل لماذا لا نرسلها مباشرة إلى لبنان؟ قلت لأن شمال لبنان محاصر من أسطول سوريا وجنوبه من أسطول إسرائيل، قال إذن أرسل باخرة إلى طرابلس بالعلم الجزائري وليغرقها السوريون… لنلاحظ كيف انقلب الرجل.لأنه وجد من يقول له أنت مخطئ ولا بد من تصحيح خطئك. وهذا سر التعامل السليم مع الرؤساء…
س تاريخيا مواقف بومدين مع العراق وفلسطين تعارض المواقف السورية ومع ذلك استمرت العلاقات ولا تزال الجزائر إلى اليوم مع بشار الأسد؟
ج حافظ الأسد لم يكن يحب بومدين، علاقاتي ساءت مع حافظ الأسد عندما وقع الصدام مع الفلسطينيين في 1975 حينها صدرت لي تعليمات من بومدين بمساعدة الفلسطينيين وفتح السفارة لهم، وأذكر أن أمّ جهاد لجأت إلى السفارة الجزائرية هاربة من مطاردة الشرطة السورية فأعطيتها جواز سفر وكلمت رئيس المخابرات السورية وقلت له “هي مواطنة جزائرية الآن، وستخرج من السفارة برقم جواز سفر كذا، وإذا مست سنطرد كل السوريين الموجودين عندنا”. كما طلب مني ياسر عرفات “مساعدة المنظمة في دمشق بأن تودع بالسفارة الجزائرية خمسة ملايين ليرة ويأتي المحاسب في كل شهر يدفع من عندكم مرتبات الموظفين وأسر الشهداء، لأننا نخشى على هذه الأموال السائلة عندنا”، فخصصت لهم بالسفارة مكتبا وخزنة واستمروا على هذه الحال أشهرا، كما أودعوا بالسفارة كمية هامة من أرشيف مكاتب المنظمة بدمشق خصصت لها غرفة خاصة بمنزل السفير. وكان السوريون على علم بذلك فتضايقوا مني وفي مناسبة قال لي حافظ الأسد “تجاوزت حدودك كسفير يا عثمان”. فأجبته من قال إنني سفير فوفقا لفكر حزب البعث أنا ظابط ارتباط بين قطرين شاءت الأقدار أن يكونا بلدين مختلفين بدل جزءين من وطن عربي واحد، فابتسم الرجل، وختمت كلامي قائلا : أنا ملزم بتطبيق أوامر أخيك الهواري بومدين”
إبراهيم ماخوس وزير الخارجية لجأ إلى الجزائر ورحب به بومدين وعاش ومات في الجزائر، الأتاسي رئيس الجمهربة مات بسجون حافظ الأسد، وكان هو وماخوس وزعيّن تطوعوا كأطباء في الثورة الجزائرية، طلب مني مثلا بعض الساسة التدخل لدى الرئيس بومدين في مسألة سجن الأتاسي، فقلت لهم “بومدين لديه مشكل سجن بن بلة ولا يحق لي طلب التدخل في هذا ونقلت ذلك إلى بومدين”، بعدها قال لي الرئيس بومدين “وصلتنا معلومات أن حياتك في خطر وممكن أن يقتلك السوريون”، قلت له “جاءني ضابط علوي إلى السفارة وقال لي حذار أن تضع رجلك في لبنان لأنهم قرروا تصفيتك برصاصة طائشة “. ساءت علاقتي بالأسد وانتهت مهمتي في سوريا أولا لم يخصص لي مقابلة كرئيس دولة لسفير يغادر وثانيا أمر بأن أودع بملحق وليس بمدير التشريفات لأنه كان متضايقا مني. فسمع رئيس الجيش الشعبي إبراهيم العلي (العلوي) بذلك وجاء وودعني بالمطار، بوحدة من الجيش الشعبي مخالفا حافظ.
لكن رغم كل ذلك موقفي الآن مع تحرير حلب وعودتها إلى الدولة لأنه لا توجد ثورة بسوريا الآن وإنما توجد فوضى ، قلتها عن المعارضة وأعيدها، هناك مئات الفصائل ولا توجد قيادة واحدة للثورة، نحن كنا جبهة واحدة، حتى مصالي الحاج حاربناه رغم أنه أبو الوطنية لأنه أرادها ثورة باسمه، أؤيد موقف الجزائر ودبلوماسيتها بأن ما يجري في سوريا هو إرهاب وليس ثورة، مع ملاحظة أن الدبلوماسية الجزائرية كان من المفروض أن تقوم بفتح الحوار منذ البداية في سوريا.
س إذن بومدين كان قارئا كبيرا
ج نعم لمدة ثماني سنوات قضيتها كديبلوماسي بين القاهرة والعراق وسوريا طلب مني أن أحضر له أي كتاب جديد وأن ألخصه له في صفحتين إلى ثلاث، وكلما أحضر إلى الجزائر أقدم له كتابا جديدا وفي أي تخصص خاصة السياسي، كان دائما يقول لي أنت الوحيد الذي تقدم لي صورة عما يجري في العالم العربي، كان قارئا من القراء الكبار.
س كثيرون يحملون بومدين مسؤولية تأجيل الاعتراف باللغة الامازيغية كلغة وطنية؟
ج في أثناء مناقشة الميثاق سنة 1976 أثار البربريست المسألة الأمازيغية، فأرسلت لبومدين رأيي في صفحات، ثم قابلته فقال لي “قرأت ورقتك فأقنعتني، أنت شاوي أمازيغي اكتب كتابا في الموضوع″، وهكذا صدر كتابي (عروبة الجزائر عبر التاريخ) في الثمانينيات، وكتابي (الأمازيغ البربر عرب عاربة) في التسعينيات، وكتابي (معجم الجذور العربية للكلمات الأمازيغية) سنة 2007 . بومدين أمازيغي من قبيلة كتامة العظيمة التي تعربت وهي تقيم في منطقة جيجل وتسمى الآن قبايل الحضرة، أبناء كتامة كونوا جيش الفاطميين الذي بنى القاهرة والأزهر في القرن العاشر الميلادي. كان بومدين يؤمن بالأمازيغية كعنصر من عناصر تاريخنا، لكن يرفض صنع ضرة للغة العربية تدخل معها في صراع لصالح هيمنة اللغة الفرنسية على الدولة والحياة الجزائرية. وهذا ما آمن به الشاذلي بن جديد واليمين زروال الشاوي الأمازيغي. لقد اجتمعت أنا والمرحوم عبد المجيد مزيان بالشاذلي بن جديد ووضحنا له التعريف السليم للمسألة الأمازيغية.
س هل ممكن أن تعطينا بعض تفاصيل معركة التعريب؟ وكيف تعامل بومدين مع المعارضين له؟
ج جيش التحرير الوطني تكون من عنصرين في البداية ، عنصر الفلاح الجزائري الأمي وإطارات الجيش من طلاب اللغة العربية من حفظة جزب “عمّ” إلى خريجي الأزهر والزيتونة ومدارس جمعية العلماء وحزب الشعب ومعهد عبد الحميد بن باديس، لهذا أن يأتي بومدين الطالب الأزهري كرئيس لجيش التحرير الوطني ليس بالصدفة، لأن الجيش هيكله كله باللغة العربية.
الانحراف الهُوِيّي وقع فيما بعد مع طلبة ماي 1956 في المدارس والجامعات الفرنسية الذين توقفوا عن الدراسة وسيطروا على الجهاز الخارجي للثورة وهو الحكومة المؤقتة وأجروا محادثات مع الفرنسيين، وجاءت اتفاقيات إيفيان بنص واحد بالفرنسية مثل الوفدين، بينما اتفاقية جنيف التي أوقفت الحرب بين الفيتنام وفرنسا جاءت بنصين الفيتنامي والفرنسي.
وفي سنة 1962 دخل الفرانكفونيون الجزائر وتنكروا لمبادئ الثورة الجزائرية الشعبية وكوّنوا الدولة الفرنكفونية. بومدين مؤمن باللغة العربية وكان عارفا بالفرنسية، ولكن الشاذلي بن جديد طور التعريب، كنت عضوا في اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني من 1979 إلى 1989 وعلى مدار عشر سنوات تم تعريب المدرسة الجزائرية كاملا، حيث كانت في وقت بومدين ثلث الأقسام في المدارس معربة والثلثان مفرنسة ، كانت بكالوريتان واحدة معربة وأخرى مفرنسة. في المؤتمر الرابع لجبهة التحرير الوطني سنة 1979 سيطر أنصار التعريب وتم إلغاء البكالوريا المفرنسة وتعميم التعريب في المدرسة وهذا في وقت الشاذلي بن جديد.
س وكيف تعامل بومدين مع ثورتكم على مصطفى الأشرف ونضالكم لحماية مشروع التعريب؟
ج في مسألة مصطفى الأشرف كنت نائبا في المجلس الشعبي الوطني، وقال لرابح بيطاط رئيس المجلس نائبٌ قبائلي ضابط في جيش التحرير الوطني هو أحمد محيوت “إذا وضع الأشرف قدمه بالمجلس سأضربه”. بومدين تأثر لذلك وخشي من تطور مواقف النواب فحضر للمجلس وناقشنا في جلسة مغلقة دامت ثلاث ساعات. وقعت عملية تسريب محاولة إجهاض للحوار فكُلفت سكينة بغريش النائب أن تطرح أول سؤال عن الأشرف، قال لها بومدين “الأشرف نشر مقالات لا تلزمنا وهي تعبر عن شخصه وأرائه الشخصية، لا نطبقها ونغلق النقاش حول هذا الباب”. وأعطى الكلمة لبوكعباش الصحفي النائب الذي قال له “كنت سأتحدث عن الأشرف لكنك أغلقت الباب”. وكنت أنتظر الكلمة، فقال لي تكلم يا عثمان، قلت له “عندي ما أقول في مسألة الاشرف إذا اتسع صدركم لذلك”، ابتسم وقال “هات ما عندك” وقال للنواب “لمعلوماتكم عثمان سعدي لا يعرف العربية فقط بل الفرنسية والانجليزية والفارسية، هات ما عندك” فقلت “الأشرف نشر مقالات، لكن الأمرية التي وقعتها بنفسك في 1976 هو غيرها بمنشور وزاري، الشُّعب الأدبية بالثانويات كانت كلها معربة، فأصدر قرارا بخلق شعب مفرنسة وهذا ضد الشعب المعربة” سجل بومدين الملاحظة وواصلت “من حقك أن تسمح له كوزير، لكن من حقنا كنواب أن نقول لا يعدل التشريع إلا بتشريع أو بمرسوم من رئاسة الجمهورية، وهذا عدوان على التشريع ونحن كهيئة تشريعية نحتج”، وكان وزير التعليم العالي آنذاك عبد اللطيف رحال حاضرا للجلسة، قلت له “سيدي الرئيس المشكل أيضا يمس وزارة التعليم العالي”، فقال لي “يا سي عثمان حتى هذه فيها مشكل”؟، قلت “مثلا كلية الحقوق معربة والوزير يصدر قرارا بفتح كلية حقوق مفرنسة مع إلغاء الشعبة المعربة، قال لي تقصد كلية تيزي وزو، قلت له “وتلمسان”، قال لي “والله لا أدري بأمر تلمسان”، سجل كل شيء ثم قال لي “في النهاية تأكدوا أن موضوع التعريب لا رجعة فيه، قلت له أنت تملك اللغة العربية وتغار عليها ونتيجة لذلك أرسل لي فيما بعد من يقول لي إن الرئيس قرر إقالة مصطفى الأشرف. وجاء الموت ليبقى الأشرف وزيرا.
في المؤتمر الرابع بعد وفاة بومدين بحضور خمسة آلاف مشارك ألقيت تقرير لجنة التربية والتعليم تضمن سبعة تعديلات تدين مباشرة الأشرف صفق لها المؤتمرون وقوفا وبحضور الأشرف. وقد سبق للشريف مساعدية مسؤول الحزب أن طلب مني عدم مس الأشرف في التقرير قال “قولوا تعريب كذا ولا تقولوا يعاد تعريب فهذا يسيء للأشرف”. قلت له “كان معربا وجاء مصطفى الأشرف ففرنسه”، قال لي “هذا تجريح له”، قلت “نحن مناضلون وسنعرض رأيك على اللجنة “قال لي “لا تعرضوها” وغادر.
الخلاصة:
أولا: كان الهواري بومدين (محمد بوخروبة) قائدا عربيا عظيما مع جمال عبد الناصر وصدام حسين، وكان الديبلوماسيون الغربيون الذين عملت معهم يرون فيهم زعماء الأمة العربية المؤمنين بوحدة مصيرها. أدرك الموت بومدين وهو في الأربعين، ولو بقي حيا لكانت الجزائر الآن في مستوى كوريا الجنوبية.
ثانيا: أدركت الولايات المتحدة وربيبتها إسرائيل أن قيادة الأمة العربية من هؤلاء الثلاثة عبد الناصر وبومدين وصدام خطر على استراتجيتهما فارتاحا لاختفائهما.
ثالثا: عندما تقرر نقلي من بغداد إلى دمشق وفي أثناء حفلة الوداع التي أقمتها بالسفارة بدرت مني نادرة قلت فيها “يروى عن عثمان بن عقان أنه كان يلقب بذي النورين لأنه حظي ببنتين من بنات الرسول زينب وكلثوم ، وأنا عثمان السفير من حقي أن ألقب بالسفير ذي النورين لأنني حظيت بنور البعثين في فترتين متتاليتين”، وبعد يومين استقبلني صدام فما أن دخلت مكتبه حتى قال لي “أهلا بالسفير ذي النورين.. لكن لعلمك أنه يوجد نور واحد” وكان يقصد بعث العراق. فقلت له “غدا عندما أعبر بادية الشام ستقال نفس الملاحظة في غربها ، ورأيي يا أبا عدي رغم التناقض بينكما إذا اختفى احدكما سيختفي الآخر…”
صحيفة رأي اليوم الالكترونية