الربيع الثاني وخريف «الإخوان» في مصر (نصري الصايغ)

 

نصري الصايغ

I ـ في البدء كان الشباب

الربيع العربي عائد مرة أخرى. الذين صنعوا «الربيع» الأول عادوا مرة أخرى. الذين سرقوه وساقوه إلى الوهم الديني والتأصيل الخرافي والاستئثار الإخواني و«التمكين» الحزبي والرطانة الكلامية، سيعودون إلى أهل الكهف بخفي مرسي والمرشد.
في البدء كان الشباب. بو عزيزي أشعل الحرائق في المظلومين والمضطهدين والغلابى، ولهؤلاء صدور عارية وجباه عالية وسواعد قُدَّت من غضب… في البدء كان الشعار: «خبز، حرية، كرامة»، وبهذا الثالوث المقدس، اجترح الشباب المستحيل. تمثال السلطة المزمن، خرَّ على خوفه وغادر مهزوما إلى منفاه.
في البدء، لم يكن «الله» بين المتظاهرين. لعله كان يرعاهم ويباركهم ويحن عليهم ويحرسهم بالحب… بعد البدء أُحْضِر «إله» آخر، ألبسوه شعارات حزبية، وظفوه في أغراض هي من اختصاص الناس، وأخذوا به، الربيع العربي، إلى خريف ديني.
إله الربيع العربي، لا يشبه إله الآلات السياسية والدينية والمذهبية. إله الربيع العربي اكتفى بالآية المقدسة: «خبز، حرية، كرامة»، وهذه وحدها كانت كافية، ولا ضرورة لهداية وتكفير وتمكين.

II ـ الإسلام لم يكن مظلوما

حكم «الإخوان» تونس ومصر. البلدان كانا يفتقران إلى الحرية والكرامة والحياة والمواطنة والعدالة والمساواة والحق في العمل. البلدان كانا يفتقران إلى الاستقلال والسيادة ويتطلعان إلى نزع التبعية للقوى الاستعمارية الظلامية.
ما كان البلدان ينقصهما إسلام او دين أو عبادة. لا بل، إن ما كان فائضا، هو التغلغل الديني الأصولي والوهابي والقرضاوي في مفاصل الحياة وخصوصيات الناس.
في البدء، كان الشباب، ثم، بعد الاطمئنان إلى عافية الثورة، دخل الاسلاميون الحلبة، حاملين معهم مظلوميتهم التاريخية ومشروعيتهم الدينية وتفوقهم العددي. فالدين عند العامة يطاع، ولا يسأل عن رجال الدين إلا للتبرك والخضوع.
البلدان يحتضنان اسلاميين، وما كان الاسلام فيهما مضطهدا، بل كان المجتمع سجينا، مظلوما، محتقرا، ومضطهدا. والثورة بدأت من هذا القاع الاجتماعي، والشعارات جاءت من هذا القصر المأساوي. المواطنون المدنيون بتياراتهم كافة كانوا يرون أن السياسة فعل اجتماعي، مصدره قول المجتمع، وهي ليست فعلاً فوقيا، إلهيا بالاسم، دينيا بفعل رجال الدين ورجال التوظيف. ومعروف، من كان «الله»، رأسماله، ينفق منه على هواه، ويكسب من الغلابى، بحفنة من آيات الحسنات والاغاثات، ويقبل ويطاع بحشد من آيات التخويف والارعاب بنيران العذاب.
المعارك التي يكون فيها الدين متراساً والمذهب خندقاً تنتهي إلى اغتصاب الحقوق للجماعات التي تخوض معاركها من دون حماية أو مرجعية دينية تستند إليها.
اكتشف الناس في مصر وتونس، حجم السرقة التي أقدم عليها «الاخوان»، ومستوى التدليس والتلفيق، والوعد والوعيد، وعقد الاحلاف والانفكاك عنها، كما اكتشفوا مقدار الزيف بين أقوالهم المدعمة بالآيات والبيّنات المأثورة، وبين أفعالهم التي جاءت طبق الأصل عما ارتكبه الاستبداد في زمن مبارك وبن علي.
اكتشف الناس كذبهم وفشلهم. فلسطين، نأوا عنها، أميركا اقتربوا منها طلبا للرضى والعناية، واسرائيل اطمأنت إليهم، فلا مساس بكامب ديفيد أبداً.
بعد عام من حكم «الاخوان» في مصر، خرجت ملايينها، في مشهد اسطوري، في تألق ثوري، في موقف حضاري، تقول «للاخوان»: ارحلوا.


III ـ شرعية صندوق الاقتراع

صناديق الاقتراع، بعد سقوط الاستبداد المدني ـ العسكري ـ المالي ـ الغربي، أعطت الإسلاميين شرعية ناقصة. ففي الثورات، والشرعية الانتخابية تُتوأم مع شرعية الميادين. أصوات الاقتراع لا تحجب أصوات الميادين. الشرعية الثورية متممة لشرعية الصندوق. فالصندوق ليس كافيا. التفويض العددي، حتى في الدول العريقة ديموقراطيا، لم يعد تفويضا مطلقا، ولو كان محصنا بالدستور والقوانين. لقد استعادت الساحات والميادين سلطة المراقبة والمحاسبة الشعبية. الميدان سلطة شعبية مباشرة، في مواجهة السلطة المنتخبة، مرة كل أربع سنوات. الميدان سلطة قائمة على مدار الساعات.
ما يحدث في تركيا دليل كاف. لا أحد يشك بنزاهة صناديق الاقتراع التي حملت «الاخوان» في تركيا إلى السلطة وحق الأمرة و… عندما اصطدمت سياسات أردوغان في الداخل، وهي سياسات تحظى بشرعية المؤسسات الديموقراطية، بتطلعات الناس، وحرياتهم ومطامحهم ومصالحهم، وهي تحظى بتأييد فئة وازنة، بانت الحاجة إلى التوأمة. صناديق الاقتراع لا تعطي السلطة الفائزة حق التصرف السياسي، بموجب التوافق مع القوانين والدستور. حاجات الشعب تقع في مرتبة أعلى. لذلك نزل الاتراك إلى الميادين، وتدفقت جماهير البرازيل إلى الساحات، اعتراضا على إنفاق هائل ومجنون لاستضافة الالعاب الأولمبية، فيما البلد يفتقر إلى الحد الأدنى من البنى التحتية الأساسية.
لقد بطر الاسلاميون بنتائج صناديق الاقتراع. ظنوا ان التفويض الشعبي تمكن سرقته وتحويره، كما يدعون زورًا، بالتفويض الإلهي، الذي يأخذونه باتجاهات الريح، حيث الكسب والفوز.
لعلهم ظنوا، وفي هذا الظن إثم، ان الأممية الاخوانية، هي مرجعيتهم الأولى، فباتوا عابرين للأوطان والدسـتور والدولة، وصارت علاقتهم بقطر وتركيا والقرضاوي تحظى بشرعية الولاء و«الإرشاد» المتبادل.

IV ـ الأممية الاخوانية

قطر لا تصنع ربيعا عربيا. أنفقت المليارات لتنصيب الاسلاميين في السلطة. قطر التي ادعت أبوتها للربيع العربي، وبارك لها ذلك، جمهور غفير من الكتاب والقيادات ورجال الإعلام، لم تكن إلا أبا مرضعاً للحركات الاسلامية. ولما بان التناقض بين سلطة «الاخوان» وحقوق الشباب والاحزاب والتيارات المدنية، انحازت إلى السلطة الاخوانية، وهي لا تزال تنفق عليها مالا وإعلاماً وديبلوماسية.
والسعودية كذلك لا تصنع ربيعاً، فهي أبعد ما تكون عن الحرية والديموقراطية والعدالة وحقوق الإنسان. وهي في الأصل، لا تدعي ذلك. تعرف نوعية نظامها وتحالفاته العميقة مع أميركا والغرب عموما. السعودية، كغيرها، ليست بحاجة إلى إسلام، لدينا منه فوائض تتدفق هبات ومساعدات ودعوات ومؤسسات، لا تمت إلى الديموقراطية بصلة.
في البدء كان الربيع العربي، مع الناس، وضد «الظلامية السياسية العربية»، المنتشرة من المحيط إلى الخليج. كان الربيع الأول، ربيعا إنسانيا، ينشد المواطنة والدولة العادلة، والديموقراطية الحقيقية. كان ربيعا مضاداً للسلطة الجائرة والمستبدة، أكانت سلطة جمهورية أم ملكية.
استطاعت الملكيات العربية، ان تقبض على الثورة وتعتقلها على تخومها في البحرين، وان تقبض على الثورة في سوريا، وتدفع بها إلى الفوضى والأسلحة.
في البدء، كانت الثورة في سوريا، من إبداع جيل من الشباب وأجيال من المقهورين والمضطهدين والمعذبين والمظلومين. كان الربيع السوري من صناعة شباب انتفضوا على سلطة لا تجيد غير لغة العنف والقمع. واجه هؤلاء السلطة بصدورهم العارية ومطالبهم التي تشبه الثالوث العربي المقدس «حرية، خبز، كرامة».
حاول النظام وأد ذلك الربيع، وفشل، ولكن الإسلاميين العرب، استطاعوا قتل هذا الربيع، عندما سلّحوه ومذهبوه وطيفوه، بدعم من أممية التطرف الاخواني والسلفي والجهادي.

V ـ محمد علي .. وعبد الناصر

الربيع الثاني، إذا اكتمل فصله في مصر، عبر عقد اجتماعي جديد ودستور مدني حاضن للمصريين بلا تفرقة ولا تمييز، وديموقراطية برلمانية محصنة بثقافة الحرية والمساواة والمساءلة، وبإنتاج سلطة ترعى وتعبر عن مصالح الشعب، وإذا حصل ذلك بسلمية ضامنة لوحدة المجتمع، بتعدد خياراته السياسية، فإن العرب بذلك يكونون على عتبة مرحلة جديدة، نموذجها مصر، لا السعودية ولا قطر ولا ليبيا ولا سوريا.
مصر، لها دور الريادة. تاريخها يشهد لها، حضارتها تؤهلها، تعدادها يرشحها، موقعها الجغرافي يمهد لها، شعبها العظيم (بكل ما تعنيه العظمة من جلال ومسؤولية) يدفعها، لتحل في المكانة التي طمح إليها محمد علي باشا، وجمال عبد الناصر. إذ لا يعقل أن تظل مصر، ملحقا بإمارات ومشيخات و«اخوانيات».
مصر بعد ربيع الغضب، ستكون «بهية».
الربيع الثاني، يبدأ منها، وخريف «الإخوان»، ينتهي عندها.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى