الربيع العربي و”الغيرة” العمياء

يصعب توصيف ما يحدث في عدد من الدول العربية منذ عام 2011، وتبدو الآن تسمية “الربيع العربي” مدعاة للسخرية بالمقارنة مع الخسائر البشرية والمادية الفادحة والتداعيات المتواصلة الخطيرة.

وعلى الرغم من الفوضى العارمة التي تضرب أطنابها في المنطقة، يحاول البعض تبرير حمامات الدم والتآكل السريع للدول العربية التي عصفت بها رياح التغيير وعجزها المريع، بأنه ثمن الحرية الباهظ، وكما يقول أبو فراس الحمداني: ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر!

إلا أن مثل هذا الشعارات البراقة لا تصمد أمام مرارة الواقع بدءا من معطيات الأحداث وانتهاء بتجلياتها الكارثية، لقد فقدت دول هذا “الربيع العربي” مقوماتها ودخلت في دوامة من الفوضى والخراب، ولم تكتسب أي شيء إيجابي بعد أكثر من خمس سنوات، فلا الحرية نزلت ولا العدالة أقامت موازينها ولا الخراب توقف، فيا له من ربيع غريب الأطوار!

كما يمكن القول إن جميع “الانتفاضات العربية” تم استغلالها من قوى داخلية وخارجية منذ لحظاتها الأولى، وهي لم تكن تعبيرا عن نضج سياسي وتوق خالص للحرية، بل كانت فرصة سانحة استغلتها قوى دينية وجهوية ودولية لتصفية حساباتها مع عدد من الأنظمة العربية لأسباب متنوعة، فكان هذا الذي يصفونه بالربيع العربي، شلالات من الدم ومأساة كبرى يصعب التكهن بمآلاتها.

واللافت أن أعدادا محدودة من الذين شاركوا في الانتفاضات العربية في مرحلتها السلمية القصيرة كانوا يطالبون بالحرية وبالعدالة وبالقانون، وينازعون الأنظمة “الدكتاتورية” على ذلك، فيما أغلبية نازعت حكامها على السماء بقوة السلاح، كما ظهر ذلك من خلال التنظيمات والحركات الدينية والطائفية التي تحاول وراثة الدولة والنظام في ليبيا ومصر وتونس وسوريا واليمن، بل وحتى في العراق والصومال، الدولتان السابقتان في مهاوي الفوضى.

وخسرت في المحصلة الدول العربية التي مر بها هذا “الربيع الغريب” استقرارها ووحدتها الترابية، وأصيبت بنيتها التحتية بأضرار جسيمة وتهاوى اقتصادها واستشرى الفساد والنهب، ناهيك عن الخسائر البشرية بين قتيل وجريح و مُقعد ولاجئ ونازح، وارتفعت معدلات الجريمة بصورة مريعة، وازدادت المعتقلات بابتكار سجون سرية في عدة دول، فأين هي الحرية الموعودة يا تُرى؟

والأدهى أن الدول الأعضاء في “الجامعة العربية” انقسمت إلى معسكرين، دول عربية عصفت بها الأحداث ودُمرت مقدراتها وشُرد أبناؤها، ودول لم تصلها رياح التغيير العاتية لكن أنظمتها ويا للعجب، غذّت نيران الثورة وفصائل التمرد والعنف بما في ذلك المتطرفة في دول “الربيع العربي” بالمال والسلاح وبالدعم السياسي والإعلامي وبكل ما يخطر على بال. فعلت هذه الأنظمة الجامدة و”الأبدية” كل ذلك، “غيرة” على الحرية ونكاية بـ”الدكتاتورية” كما تدعي.

ويصعب في هذا الوضع تقدير الخسائر التي أنهكت ولا تزال دول الربيع العربي، بسبب الدمار المادي والمعنوي الهائل وتواصل النزيف والتداعيات السلبية القاتلة، إلا أن تقديرات خسائر “الربيع العربي” المادية خلال خمس سنوات على كل حال موجودة وهي تتراوح بين 800 مليار دولار وتريليون دولار، منها بحسب “المنتدى الاستراتيجي العربي” بدبي، 461 مليار دولار هي تكلفة الدمار الذي لحق بالبنية التحتية، و289 مليار دولار، القيمة التي فقدها الناتج المحلي الإجمالي. أما حصيلة الخسائر البشرية، بحسب تقديرات “المنتدى الاستراتيجي العربي” فتزيد عن مليون إنسان بين قتيل وجريح، بالإضافة إلى نحو 14 مليون ونصف المليون لاجئ.

وإذا أخذنا بالحسبان أن “الربيع العربي” والأحداث الدامية التي سبقته طالت دولا غنية بأرصدة واستثمارات هائلة مثل ليبيا والعراق، وأن حجم الفساد والنهب قد بلغ درجة أصابت الخدمات الأساسية في هذين البلدين بالشلل، فيمكن توقع أن تكون الخسائر المادية أكبر من المقدر بكثير، لسبب بسيط أن نهب “الثروات العامة” متواصل، ولا توجد سلطة مخولة قادرة على رصدها، ناهيك عن تقديم الجناة إلى العدالة. وبالمثل الخسائر البشرية في هذه الدول الغارقة في الفوضى، إحصاؤها هي الأخرى لا يبدو الآن ممكنا أو متاحا.

وكالة نوفوستي الروسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى