“ميسلون هذا الكتاب يجب أن تقرأيه”.. بهذه الكلمات حملتْ المعمارية العزيزة فاتن الصراف كتاب “الرحلة الناقصة”، واشترتْه لي “هدية”، ثم وضعتْه في حقيبة الكتب، التي كنت أحملها، أثناء حضور المعرض الأخير للكتاب.
امتلأ الكتاب بالفواصل الورقية التي وضعتُها بين صفحاته، وتعددتْ الأيادي التي كنت أضعها على قلبي أمام الكثير من المواقف والمفاجآت الموجودة فيه، فهذا الكتاب يشبه مشرط الجراح، الذي يذهب إلى هدفه دون تردد أو مجاملات، والأهداف كثيرة جداً، يمثلها نجوم الستينات، الذين عاصرتْهم الدكتورة فاطمة المحسن خلال سيرتها الثرية الحافلة بالأسماء والعلامات الفارقة.
سعدي يوسف مثلاً، هاجمه السنة والشـيعة، ولكنه ملحد يحب تمثيل دور الشاعر الملعون، فتسلى بفرقعات الكراهية وحفلات الشتائم، لينام في الليل على وشيش الراديو.. عبدالأمير الحصيري الشاعر النابغ أعطاه صدام حسين رقم هاتفه الشخصي، فراح يلّوح به لكل من يعاديه أو ينزعج منه.. سركون بولص، الصعلوك (الأصيل) والعدمي (الكامل) بدون ادعاء، عاش على ضياع الفرص المتاحة، وعدم التسويق لنفسه، ولولا سعي خالد المعالي لجمع شتاته، لما نُشر له إلا القليل.. فوزي كريم، يرتدي معطفه الطويل في عز الحر، وله حده الثابت في تقسيم الأدب إلى حقيقي وعضلي. وخصومة مزمنة مع فاضل العزاوي.. يوسف الصائغ، تحولتْ الحياة عنده إلى لعبة مشبوهة، بعد أن كان كرنفالياً أكثر من الشباب في نضاله. . منعم حسن، المفكر الألمعي الذي ترفع على النشر وعلى الكتابة، واكتفى بدوره رئيساً لشلة اليائسين.. صادق الصائغ، الذي استدعاه الرئيس أحمد حسن البكر، ووبخه بشدة، على مظهره الرومانسي الناعم، وأمر بإيقاف برنامجه.. رياض قاسم، المشتبك مع مظهر الوجودي الساخر من المجد والشهرة. . سهيل سامي نادر، المحترف النزيه الخائف من أشباح تطارده.. صموئيل شمعون، الذي يشتم، جاداً وهازلاً، الأدباء المُحتفى بهم في مجلته (بانيبال).. جان دمو، المغناطيس الذي يجذب الأدباء الشباب حتى لو كان بحذاء ممزق.
والأسماء كثيرة جداً.. هذا يمشي مسرنما في يومه، وذاك يدعي الصعلكة، وذاك متخصص بسرقة الكتب، أو أصص الزرع من أمام المنازل. إنه جيل عاش الحياة كحالة شعرية، فاستهلك نفسه مبكرا، لكن الوسط الثقافي يُفرد له تبجيلا خاصا (في العراق كان هناك تبجيل للخارجين عن الأصول، وحتى الشّتامين والعدوانيين، فالوسط الثقافي يفرد لهم مكانا خاصا باعتبارهم مجانين ناطقين بالحق والغيب).
الكتاب يمشي بسرعة ماكنة خياطة تدوس على قماش سميك من (التركال)، فلم تملك الدكتورة فاطمة إلا ان تضغط على القماش بقوة، لئلا يختل الإيقاع وتتراجع عن خطتها.. إنها تريد سيرة صريحة حادة خالية من المجاملات عن (المجانين وأنصافهم، الكحوليين واتباعهم، الحشاشين بأنماطهم. وكلهم نتاج خصال عراقية شبه انتحـارية تنشط بين الأدباء والفنانين على نحو مضاعف، وتغدو أقرب للتطهر أو العبث)، كما أن (المبالغات) هي القاسم المشترك بين أبناء ذلك الجيل، وهذه عادة اكتسبوها من الإدمان على أحاديث المقهى الشعبي العراقي. وأشهر مبالغاتهم هي الإشاعات التي يطلقوها عن علاقاتهم النسوية، فهي في أحيان كثيرة (أحلام مفلسين).
بين بيروت ولندن، كانت تلك الصداقات نوعا من التعويض عن العائلة والضياع في المدن. والمقاهي هي التي تؤجل انصهارهم في البيئة الغربية، التي فتحت أبوابها للإسلاميين أكثر من غيرهم، مع أنهم يحملون نفوراً وعدوانية للمحيط الجديد.. وحتى عندما أسس فخري كريم رابطة الكتاب والفنانين والصحفيين عام 81، وترأسها سعدي يوسف، توفّر بعض التعويض لسنوات قصيرة فقط، ثم انعكس تردي أوضاع العراق عليها، ففترتْ همتهم في متابعة نشاطاتها. كما أن مشهد الغربة تنوع كثيراً في ألوانه، بعد أن كان مقتصرا على جماعة طريق الشعب ذات الروح الرفاقية والعقائدية، وليست المناطقية أو الطائفية.
يبدو لي أن هذه الروح الرفاقية، هي التي جعلتْ الدكتورة فاطمة (تمون) على صحبتها من اليسارين بهذه الموجة من الصراحة الشديدة، أو بالأحرى تثق بأريحيتهم، وبالتالي تحاشتْ ذكر شخصيات العالم الموازي (أدباء البعث في السبعينات) إلا مرة واحدة، عندما ذهب الشاعر الوزير شفيق الكمالي مع صديقه صادق الصائغ إلى استدعاء الرئيس أحمد حسن البكر، لكي يُخفف من عواقب هذا الاستدعاء المقلق.
تبلغ صراحة الكاتبة مداها، عندما تقول إنها هربتْ من كل مجلس توجد فيه بلقيس مع زوجها رفعت الجادرجي، معولة على خطأ تعترف به، وهو الاعتماد على حدوسها في معرفة الناس. وهذا الحدس سوف يتكرر مع المترجم نجيب المانع صاحب المكانة المتميزة في الخمسينات والستينات.. في مكان آخر ستدين الدكتورة فاطمة نفسها على هذه الهواجس، وتقول أنها ورثتْ بعض حالاتها النفسية من أبيها، ومن أهل الناصرية (العراق الحزبي المصغر) بعض تناقضاتهم وجنونهم.
هم مرات يفيضون عاطفة تفّجر الكون برقة طبعها، وهم مرات أخرى غير قادرين على ضبط إيقاع ثورتهم. وهكذا تكشف فاطمة المحسن مصدر تلك الوساوس والومضات والحنين المبرح لعربدات الورح وعدوانيتها. وتستذكر على نحو كوميدي مفارقة من مفارقات التشرد، فهؤلاء الهاربون إلى الحرية، يقوم أثنان منهم، هما سركون بولص وعبدالقادر الجنابي بضرب أديب عربي لأنه (شـتم العراق)!!!.
لا تزال هناك أحاديث وصفحات كثيرة من سيرة الدكتورة المحسن: طريق الشعب، جماعة الطريق، مغادرة الحزب الشيوعي، السجن، غدر الحليف في الجبـهة الوطنية، سحق الكوادر في السجون، الهروب من العراق، التنقل بين المنافي، فترة المرض، قصة اللقاء والفراق مع رفيق الرحلة الدكتور فالح عبدالجبار، بالإضافة إلى تجربة مريرة ترويها الدكتورة فاطمة (لأول مرة) عن فترة التعذيب المؤلمة التي قضتها في السجن.. ثم بعد خروجها بأيام، وهي لا تزال بجسم محطم، ستشاهد بطلها الأسطوري فيدل كاسـترو، يقلد صدام حسين جائزة خوزيه مارتيه، فأصابتْ منها تلك اللقطات مقـتلاً، وشعرتْ أن هذا التاريخ المرير الذي كتبه النضال على أجسادهم لا يساوي قبض ريح.
لقد انتابني إحساس أكيد، بعد اكتمال الرحلة، بأن هذا الكتاب وجودي وعدمي وتهكمي مثل بعض شخصياته التي انكسر حلمها بشكل مفجع، فلم تملك الدكتورة فاطمة إلا ان (تُكاسر الماء الحار بالماء الحار)، وأن تُشعرنا بالفرق بين (الموت) وبين (إنهم يموتون). وبالتالي سيتساءل القارئ مع نفسه بالكثير من الأسى، هل هناك من يتذكر أولئك المضحين في المنافي والسجون، أو سمع عنهم، أو يعرف بهم أصلاً؟
ميدل إيست أونلاين