كتب

‘الرغبة الأخيرة’ تتساءل: كيف يموت كتّاب أدمنوا الكذب طوال حياتهم؟

محمد الحمامصي

رواية الكاتبة الأوكرانية إيفهينيا كونونينكو تتناول اعترافات كاتب سوفييتي خدم النظام وقام بعمليات إعدام باسم الأيديولوجيا، وتطرح من خلال مخطوطة تركها بعد موته أسئلة فلسفية حول الذنب، الذاكرة، والهوية.

 

تأتي رواية “الرغبة الأخيرة” للكاتبة الأوكرانية المعاصرة إيفهينيا كونونينكو كعمل أدبي فريد، يجمع بين ثقل الاعترافات الشخصية وعمق التأملات الفلسفية حول الذاكرة والهوية والميراث الإنساني. حيث تتساءل كيف يموت الكتّاب الذين أدمنوا الكذب طوال حياتهم؟ كتاب خدموا النظام الدكتاتوري، وأصدروا كتبا لم يقرأها أحد، فيما كانت أسرهم تعيش حياة هانئة في بحبوحة.

إلا أن أحدا لا يغادر الدنيا من دون أن يبوح بالحقيقة، حتى لو كانت على شكل مخطوط لم تنشر. اختفت المخطوطة لسنوات. ويبدو أنه قد حان الوقت لقراءتها لكن بعد عقد ونصف من الزمن، في عصر الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي المتطورة، وصلت إلى يد ابن كاتبها ومن ثم حفيده، كانت عبارة عن دفتر يحمل غلافه رسم جرو، وفي الدفتر دون الكاتب المتخيل سيرته.

هكذا تدور رواية كونونينكو الصادرة عن دار “صفصافة” وترجمها عن اللغة الأوكرانية المترجم اللبناني عماد الدين رائف؛ حول الكتابة والاعتراف كعلاج للخلاص. خاصة عندما تكون خطايا الماضي ثقيلة، فالمخطوط الذي يمثل سيرة ذاتية تحمل ذات العنوان”الرغبة الأخيرة”، يعترف فيها الجلاد السوفيتي والكاتب والمترجم صاحب الشهرة الواسعة إيفان إيفاك، تنفيذه أوامر السوفيات بإعدام المعارضين للشيوعية في أوكرانيا. لقد جاء إيفاك أولا إلى ورشة أدبية ضمت نخبة الكتاب الموالين للنظام السوفييتي والعاملين في أجهزته الأمنية، تم تنظيمها للموهوبين، وهناك تم تجنيده ليأخذ مكانه في التسلسل الهرمي للكتاب السوفييت الأوكرانيين حيث يبدأ نشر أعماله وترجمتها.

عمل إيفاك ​​جلادًا في أحد أقسى مراكز “المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية” (ك.ج.ب. لاحقًا) وكان يشنق الأبرياء باسم المُثُل الشيوعية، وتنتصر كتاباته للدكتاتورية، وبعد انخراطه في الورشة الأدبية، كتب قصة قصيرة بعنوان “الجلاد”، التي نشرت وحاز الكاتب على الاحترام بين أقرانه. لكن بعد رحيل زوجة ليوبا تحولت حياته إلى جحيم. كانت لعنته هي عدم القدرة على الموت (حتى محاولات الانتحار لم تنجح) وبالتالي الهروب من الندم. فكان أن هرب إلى كتابة السيرة الذاتية ليحملها اعترافاته، وفقط بعد الانتهاء منها، مات على مكتبه مباشرة. ومع ذلك، يمكن للمرء أن يشك فيما إذا كانت هذه التجربة مقدمة للتأمل الذاتي والوصف، أو ما إذا كان من الممكن قول الحقيقة حول النمو الوظيفي للجلاد في شكل كاتب أو رقيب. بعد بضع سنوات من موته، سقطت المخطوطة المختفية الموقعة باسم إيفان إيفاك، والمكونة من مقدمتين وسيرة ذاتية خطها بنفسه لتصل إلى ابنه وابنته. تصل المخطوطة بأعجوبة إلى يد ابنه، ويقرأها الحفيد، ليكتشف أن جده أطلق النار على جد عروسه.

تتميز الرواية ببنية سردية دقيقة، حيث يتداخل صوت الكاتب العجوز مع أصوات أخرى ربما تكون جزءًا من ذاكرته أو تخيلاته، مما يخلق نسيجًا سرديًا متعدد الأوجه. لا تقدم الرواية قصة خطية تقليدية، بل تغوص في أعماق الذاكرة، تستعيد لحظات فارقة، وتتأمل في تأثير الماضي على الحاضر. يصبح الماضي في الرواية ليس مجرد سجل للأحداث، بل قوة حية تشكل الهوية الفردية والجمعية.

تطرح كونونينكو من خلال شخصية الكاتب المسن إيفاك أسئلة وجودية عميقة حول معنى الحياة والموت، وحول قيمة الإرث الذي يتركه الإنسان خلفه. هل تكمن قيمة الإنسان في إنجازاته الظاهرة أم في بصمته الروحية والمعنوية التي يتركها في نفوس الآخرين؟ وما هو الثمن الحقيقي لنسيان الماضي أو تجاهله؟.

تبرز في الرواية فكرة أن معرفة الماضي ضرورية لبناء مستقبل واعٍ ومستنير. فالكاتب، وهو على أعتاب الرحيل، يشعر بمسؤولية تجاه الأجيال القادمة، ويسعى من خلال كلماته الأخيرة إلى نقل دروس وعبر استخلصها من تجربته الحياتية. لتصبح الكتابة نفسها نوعًا من الجسر يربط بين الماضي والمستقبل، بين تجربة فردية وحكمة جماعية.

لا تخلو “الرغبة الأخيرة” من لمسة إنسانية مؤثرة. ففي خضم التأملات الفلسفية، تظل الرواية قريبة من المشاعر الإنسانية الأساسية: الحب والفقد والخوف والأمل. حيث تصور ضعف الإنسان وقوته في آن واحد، حاجته إلى التذكر والاحتفاء بالماضي، وضرورة التطلع نحو المستقبل بشجاعة ووعي.

في النهاية، يمكن اعتبار الرواية دعوة للتأمل في علاقتنا بالزمن والذاكرة. إنها تذكرنا بأن الماضي ليس مجرد حكايات عتيقة، بل هو جزء لا يتجزأ من هويتنا ومرشد قيم لمسيرتنا نحو المستقبل. من خلال أسلوبها الأدبي الرصين والعميق، تدعونا الروائية إلى نبش ذاكرتنا الفردية والجمعية بحثًا عن المعنى والقيمة في رحلة الوجود الإنساني.

يذكر أن كونونينكو روائية وشاعرة ومترجمة وباحثة في المركز الأوكراني للدراسات الثقافية، وتعد من أهم أعلام الأدب الأوكراني المعاصر، حازت على عدد كبير من الجوائز الأدبية.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى