الروائيون حول مائدة الحوار
الروائيون حول مائدة الحوار… يجمعُ الاهتمام الإبداعي بين الروائيين، وما يضمهُ منجزهم من العوالم المتنوعة والأسئلة المضمرة بشأن الواقع الإنساني، يقدمُ فرصةً لرؤية الحياة من مستوى جديد بعيداً عن التقييدات السائدة والأطر التي تحد من فعالية التفكير، لذا فإنَّ وظيفة الفنون عامة، والرواية على وجه الخصوص، تتمثلُ في في مد الخيال بما يضعهُ خارج الأسيجة التي تكرسُ النمطية في التفكير والإختيار، هذا عن دور الرواية وما توفرهُ من المثابات لإعادة النظر حول المعطيات الحياتية. فماذا عن اشتغالات المبدعين وأداواتهم في الكتابة والقلق الذي يصاحبُ المَخاضات الإبداعية؟ طبعاً ثمة أسئلة من هذا المنوال تداهمُ المتلقي أثناء متابعة المرويات السردية، وقد يكونُ السؤالُ عن علاقة المادة الروائية بسيرة صاحبها ومدى التداخل بينهما هاجساً ملحاحاً بالنسبة لأي متابع، وربما يؤدي ذلك إلى قراءة إسقاطية بقطع النظر عن الإحتمالات الواردة على هذا الصعيد، فإنَّ تجارب الكاتب ستكونُ لها تجليات في نصوصه وآليات تعدينه الإبداعي، فبالتالي يمكن استخلاص كتب كثيرة من الحياة حسب رأي فرانتس كافكا الذي تبدو حياته الشخصية أكثر غرابةً من أجواء رواياته، وتفوقُها سوداويةً، ولا يغيبُ في زمن القراءة السؤالُ حول برنامج الكاتب الروائي وأجندة عمله لبناء الشخصيات وتحديد المساحة التي يتحركُ فيها، وشكل التواصل مع أسلافه ومجايله.
استجواب
صحيح أنَّ حياة بعض الكتاب كانت متماهية مع التأليف، ولا شيء يوازي متعة الكتابة لديهم. يقولُ كافكا: حين لا أكتبُ أتهاوى أرضاً أصير غير صالح إلا للكنس. لكن هذا الأمر قد لا ينطبقُ على الجميع، فثمة من يريدُ اختبار مذاق الفنون الأخرى، فكان همنغواي يعجبه سباق الخيول والتطواف في المتاحف.
على أية الحال لا تنسبطُ المعلومات عن رهانات الكتابة الإبداعية وحيثات طبخة العمل الروائي إلا على مأدبة الحوار، إذ يتم استجواب صاحب الأثر وما يقولهُ قد يكشفُ جوانب جديدة عن خلفيته الفكرية ورؤيته لمفهوم الإبداع، ومن هنا تأتي أهمية الكتاب الذي نشر بعنوان “أن تكون روائيا” وهو يتضمنُ سلسلة من الحوارات مع عدد الروائيين نقلها إلى العربية أسكندر حب فاستقى الأخير المواد الحوارية من عدة مصادر، فدمجَ ما رآه مناسبا في هذه الحلقات الدسمة لافتاً في مقدمته إلى دور الحوار في النهوض بالحياة الفكرية لدى الإغريق، إذ تأسس مفهوم الجدلية على تلك المناقشات التي تدور في الساحة العامة “الأغورا” بين الفلاسفة ومريديهم.
يرى حبش أنَّ الحوار الأدبي يكشفُ وجوهاً مخفية للكتّاب. مستعيداً في هذا الإطار ما قاله مونتاني “أنا المادة الوحيدة لأدبي”. وبنظر المترجم لا أحد يجيد التحدث عن أدبه سوى الأديب نفسه، لذا فمن الضروري الإنصات إلى ما يقوله الأدباء.
بيتر هاندكه هو الوجه الأول الذي نتعرفُ من خلال الحوار على شغفه بالغابة وقطف الفطر، ونشر له كتاب خاص بهذا الموضوع “رسالة حول مجنون الفطر”، فقد أثار صاحب “رسالة قصيرة للوداع الطويل”، بحضوره في مراسيم تشيع ميلوسيفيتش جدلاً ساخناً في الوسط الثقافي. يهتمُ هاندكه بملاحم العصر الوسيط، فبرأيه أن العالم كبير وصغير في آن واحد، فبإمكانك أن تكون على الشاطيء أو تمشي في الغابة، ومن ثمَّ تلتقي بامرأة. يؤكد بيتر هاندكه بأنَّه قد قرأ ستين كتاباً لجورج سيمنون واصفاً إياه بالقماشة المختلفة. بنظره أنَّ القاريء لأعمال سيمنون غير محصن إنما يتوه في مجاهلها. وفي ذات السياق يعبرُ عن إعجابه بالكاتب الأيسلندي هاللدر لاكسنيس مضيفاً بأن الخونة هم الذين يقرأون أشياء مماثلةً.
وعن علاقته بالترجمة يصفُ هاندكه تجربته في هذا المجال وهو ترجم رينيه شار، موديانو، يوربيديس، سوفوكليس، بأنها رائعة ومع ذلك توقف عن الترجمة قبل أن تمتص أدبه الخاص. يسخرُ هاندكه من مشروع تغير العالم، وما يمكنُ القيام به هو إبعاد الأشياء الكريهة عنا. يتحولُ الغضب لدى هاندكه إلى محرك للإبداع تماماً مثل الحب فيما البغض لا يفيد العملية الإبداعية أبداً.
تنتقلُ ناصية الحوار إلى الروائي المكسيكي كارلوس فونتيس، وهو يعلنُ بأنَّ ما يشغله هو العمل، وليس الجوائز ولا التشربفات. وقد سبك فونتيس هويته الأدبية دون الإنضواء بمعطف أوغستان يانيز أو خوان رولفو، وذلك عندما طوع الرواية للإبانة عن تناقضات مدينة مكسيكو التي كان يبلغُ عدد سكانها خمسة ملاين نسمة، وعن وجود التفاوت بين الأجيال من حيث المستوى الإبداعي وجدارة الجيل الجديد.
يلفت كارلوس فونتيس النظر إلى أمر في غاية الأهمية، وهو أن الأدب ليس صنيع شخصٍ ولا مجموعة من الأشخاص أو جيلٍ، بل الأدب عبارة عن تتابعٍ موضحاً بأنَّه لا يوجدُ كاتبُ بدون من يسبقه في مضمار الإبداع، وبدون أحد بعده، فالأدب بنظر مؤلف “كرسي الرئاسة” هو وليد التوتر بين التراث والإبداع. ويكمنُ تميزهُ في أن يجعلً ما هو عابرُ خالداً والرواية هي عملية البحث عن الهوية عند فونتيس إذ يجدُ القراءُ هويتهم الخاصة في البيئات النصية التي تحتضنُ الشخصيات المُختارة والكائنات الورقية.
والجزء غير المكتوب للعالم لا تغطيهُ سوى الرواية، وهذا الجزء واسع بطريقة لامتناهية، واللافت هو مايبديه فونتيس من إعجاب شديد بكافكا، فبرأيه أن صاحب “المسخ” هو الكاتب الوحيد الضروري في القرن العشرين، ويصعبُ فهم عصرنا بدون كافكا.
ينفتحُ الحوار على قامة أدبية أخرى ماريو بارغاس يوسا فهو قد أشار في خطابه الذي ألقاه خلال تسلمه جائزة نوبل أنَّ الكتابة تجعل الموت عرضاً عابراً، كما أن القراءة قد حولت لديه الحلمَ إلى الحياة، والحياة إلى الحلم. يصفُ مؤلف “حرب نهاية العالم” الرواية بأنها نوع مفترس يمكنك أن تضعَ فيها كل شيء الفلسفة والشعر والأقاصيص.
يستعيدُ يوسا في سياق الحوار المناسبة التي ألهمته بكتابة روايته “حفلة التيس” على الرغم من نزوعه إلى السارترية في بدايات شبابه، لكن يحبُ ماريو بارغاس خصم معلمه كامو أكثر، لأنَّه يؤمنُ على غرار الأخير بضرورة إدخال العنصر الأخلاقي في التحليل السياسي. وتطال مروحة الحوار تجربة ماريو السياسية وترشحه للانتخابات الرئاسية في بلده البيرو، ولا تقف اهتمامات يوسا عند الكتابة بل يتابع الفن التشكيلي وفنانه المفضل هو الألماني يورغ غروس.
ينضمُ الكاتب الياباني كينزا بورو أويه إلى حلقات الحوار ويكونُ لموضوع الإستعمار وعلاقته مع ابنه الذي لا يمكنه التعبير بالكلمات حصة أوفر من مساحة الحديث، هذا إضافة إلى ما تعنيه الكتابة بالنسبة إليه، فهي بمثابة تعويذة تمكنهُ من طرد شياطينه أو جلبها أحياناً. فبرأيه أن دانتي هو الكاتب أكثر إيروتيكية في العالم. حاول أويه تطبيق الشكل الأدبي السائد باليابان يدعي بأ “رواية الأنا” في روايته “رسائل إلى سنوات الحنين” ويعلن الكاتبُ بأنَّه لا يزال يقرأُ سارتر معتبراً رفض صاحب “الوجود والعدم” لجائزة نوبل رسالة كبيرة، ويتأسفُ في الوقت نفسه قائلاً “ليس لدي أية رسالةٍ أنقلها”.
الضباب
يصلُ الحوارُ إلى عالم الكاتب الفرنسي باتريك موديانو فهو يكتبُ الرواية نفسها دون أن يكررها، فمدينة باريس التي عاش فيها ويكتبُ عنها لم تعدْ موجودةً، فهو لا يشغله الحنين وما وقعَ في الماضي بقدر ما يهدفُ إلى صناعة مدينة حلمية متحررة من الزمن حيث تتطابق الحقبُ لتجسد ما أسماه نيتشه العود الأبدي.
يكتبُ صاحب “أزاهير الخراب” على منوال سائق يقودُ سيارته في الضباب، ويعتقدُ موديانو بأنَّ المرء يجبُ أن يكون بارداً تجاه نصه، ويقطعه كجراح ويصحح ويخففه بخلاف ماقاله أسكندر حبش في المقدمة، فإنَّ الكتاب برأي موديانو لا ينتمي لكاتبه بل لمن يقرأه.
وما يهتمُ به الكاتب الياباني هاروكي موراكامي هو مساءلة اليقينيات، وتقويض العقيدة التي تتوهم بأن الإنسان يعيشُ في عالم سليم يريدُ مؤلف “شاطيء كافكا” الزج بالقاريء نحو عوالم سوريالية موغلة في الكابوسية.
وبدوره يكشفُ الكاتبُ الإيطالي أنطونيو تابوكي في مساحة الحوار بأنَّه كتب روايته الأولى “ساحة إيطاليا” متأثراً بالمخرج الروسي إيزنشتاين إذ بعدما كمل كتابة النص قطعه بالمقص وعلقته على جدار الغرفة مطبقاً بذلك دروس صاحب فيلم “أكتوبر”. ومن قرأ لتابوكي يعرف بأنَّ رواياته تعتمدُ على الجملة القصيرة وتقطيع المادة إلى وحدات مستقلة، والثمية التي تعدُ أساسية في أعماله هي البحث عن الهوية. وذلك الأمر قد بدأَ يشغله عندما تفتحَ ذهنه على الثقافات الأخرى. في مفصل آخر من الحوار يؤكدُ أنطونيو بأنَّ الكلمات تتشكلُ بفضل رؤويتنا الظاهراتية للعالم، ويرفض وجود الأفكار الفطرية.
وكانت لحظة معرفته بفرناندو بيسوا قد عطفت بتابوكي نحو فضاء أدبي جديد وعن إهتمام شخصياته الروائية بالأطعمة في أعماله الروائية. يقولُ مؤلف “هذيانات بيسوا” أنَّ ذلك يعكسُ اهتمامه الشخصي بالطبخ.
إلى جانب الأسماء المشار إليها سلفاً تستضيفُ مأدبة الحوار كل من أندريه برينك من جنوب أفريقيا، وهو يدفعهُ فضول كبير إلى قلب اللغة كي يعرف علبة أدوات الكاتب، ولا يضاهي اللغة من حيث الأهمية لدى مؤلف “الحب والنسيان” سوى الجنس.
والكاتب الترينييداي البريطاني ف.س نابييول الذي يتطرقُ في حديثه إلى الظاهرة الأصولية مشيداً إلى ما أوجدتهُ الديانات التوحيدية من المشترك بين بني البشر وفي الوقت نفسه يسمى الدين بالإستعمار الثاني. وبهذا يصحبُ القاريء كتاباً من مشارب ثقافية متعددة ويندس عالمهم الموارب ويصغي إلى ما يضمه الأثر الأدبي بصوت المؤلف.