الرواية اليابانية… نبع لا ينضب
خلال فترة انعزال دامت أكثر من 265 عاماً، لا تزال اليابان تنتج أجيالاً روائيَّة متتابعة، ليغدو المشهد الروائي الياباني برمّته على اختلاف المدارس والتوجّهات، شيئاً شبيهاً بنبع مياهٍ لا ينضب.
تتجلّى الأهميَّة التي توليها الحكومات السياسيَّة اليابانيَّة المتتابعة لأعلام الأدب واضحةً، بدءاً من ناتسومه سوسيكي الذي تحتلّ صورته مربعاً على ورقة نقدية بقيمة ألف ينّ ليحلّ محل صورة لأمير من سلالةٍ إمبراطوريَّة يابانيَّة، وليس انتهاءً بأعظم الروائيين اليابانيين على الإطلاق يوكيو ميشيما، الذي يعتبر أسطورةً حتّى الآن لحجم رواياته وطريقة موته الكرنفاليَّة وحجم الاحترام الشعبي له.
يأتي كتاب «أعلام الرواية اليابانيَّة في القرن العشرين» (الرافد الجديد) لعلي كنعان، ليرسم ملامح للرواية اليابانية وأعلامها. المؤلّف أشبه بموسوعة صغيرة للاحتفاء بهذا الجنس الأدبي اليابانيّ الأثير. يقول المعدّ: «إنّ كتابي هذا ليس أكثر من مفتاح للدخول في عالم الرواية، وهو لا يغني عن قراءة روائع هذا العالم الغني الحافل بمتعة الفن والجمال، سواء في نصوصها الأصلية أو في ترجماتها».
يخوض الكتاب مهمّة صعبة، هي سرد تاريخ روايات وأعمال خمسة من أهم الروائيين اليابانيين كتابةً خلال القرن العشرين، وهم على التتالي كما ورد في الفهرس: «أكوتاغاوا ريونوسُكِه وناتسومِه سُوسِكي وكاواباتا ياسوناري بالإضافة إلى تانيزاكي جونْئِتْشِرو وأُووِه كِنْزابُرو، فيما كان بالإمكان عرض أكثر لروائيين آخرين أسهموا في نهضة الفنّ الروائي!
يتعقّب الكتاب سيرة أكثر الروائيين اليابانيين تأثيراً خلال القرن العشرين، مفتتحاً السيرة مع تسليط الضوء على الروائي آكوتاغاوا ريونوسُكِه (1867 ــ 1916)، الذي انتحر وهو في عمر الخامسة والثلاثين فقط. يفسّر المعدّ سبب استهلاله بهذا الاسم، كون آكوتاغاوا من «أشهر كتّاب اليابان في القرن العشرين، وله مكانة أدبيَّة متألقة بين أبناء أمّته».
يعتبر آكوتاغاوا روائيَّاً شاعراً، بحكم مباشرَته بكتابة قصيدة الهايكو اليابانيَّة، ومن ثمّ انتقاله إلى كتابة القصة فالرواية. التنقّل أكسب تجربته نضجاً وغموضاً تفرّد به، كما أن اشتغاله على إعادة إحياء الكلاسيكيّ أكسبه إعجاباً شعبيّاً منقطع النظير داخل اليابان.
تعتبر الرواية اليابانيَّة بدقّتها التصويريَّة من أعظم الروايات. يقف أغلب الرواة في اليابان، على مسافةٍ واحدة من المحكيّ والشفهي. وباحترامهم التقاليد وعدم الشذوذ عنها، يغدو العمل الروائي الياباني عملاً عالمياً وصالحاً للإسقاط في كل المجتمعات الشرق أوسطيَّة مع الاختلاف في الدقّة اللا متناهية المستفيضة.
بطريقة السرد المدرسيّ (نقطة ضعف الكتاب الأساسيَّة) يمضي المعدّ في سرد علاقة آكوتاغاوا برمز الرواية اليابانيَّة (ناتسومِه سوسِكي) العلامة الأبرز في الرواية اليابانيَّة، وإشادة الأخير بقصّة «الأنف» التي كتبها آكوتاغاوا وهو على مقاعد الدراسة، بالإضافة إلى قصصه المستوحاة من الماضي الياباني القديم.
يبيّن كنعان أهميَّة القصة وتقاطعاتها. وعلى الرغم من موسوعيَّة الكتاب، إلّا أنّه يتسّم بالبرودة في سرد المعلومة، لكن يسجّل له قراءته لأغلب الروايات اليابانيَّة النادرة الترجمة إلى اللغة العربيَّة قراءةً كاملة.
بعد سردٍ معمّق لروايات آكوتاغاوا، ينتقل الكتاب إلى ناتسومِه سوسِكي (1867 ــ 1916) الذي يؤدّي معنى اسمه في اللغة العربية العنيد أو الغريب الأطوار. يسهب المؤلّف في الحديث عن مجمل أعماله، سارداً عمق معاناة الروائي، وفقدانه للحنان بشكلٍ عام خلال مراحل طفولته وتأثير هذا الأمر وانعكاساته في مجال الكتابة في ما بعد.
ولا تخفي الأحداث اطّلاع سوسِكي على الأدب الإنكليزي وإبداعه في الأدب الصيني خلال فترة دراسته للهندسة في «كلية يوشيمون»، كما سيذكر هوَ في كتابه «أمّا بعد»، قبل أن ينهي دراسته في الكلية ويبدأ رحلة العمل في التعليم ويتعرّف إلى أهم شاعر هايكو في اليابان مساؤكا شيكي.
ستكون تلك الصداقة ذات «تأثير في تشجيع سوسِكي على الكتابة»، كما ستساعد: «في خلق مناخ إبداعي طليق تفّتحت فيه موهبة الشابّ وأسهمت الأجواء المواتية في صقلها وتطويرها، فتمرّس بكتابة القصيدة الصينية المعروفة باسم «كانشي»، وهي نوع شعري متوارث من عهد سلالة«هان».
لا تكاد تخلو روايات سوسِكي من النظرة الحداثيَّة إلى الرواية والفن الروائي على الرغم من أنّه لمّح في أكثر من مكان إلى أن الحداثة التي اقتحمت البلاد كانت وراء تدمير الشخصيَّة اليابانيَّة. يتجلّى ذلك في روايته «أنا قطّ» التي جعل فيها الشخصيَّة الأساسيَّة هرّاً متكّبراً غير محبوب، قبل أن تتوالى الروايات في السنوات العشر الأخيرة من عمره، من ضمنها أهم ما كتبه «سانشيرو، أما بعد، البوابة»، حيث الشخصيات المأزومة والانطوائيَّة هي التي تتولّى مهمَّة السرد.
يبدأ سوسِكي دراسة الأدب الإنكليزي عام 1890، لكنه سرعان ما سيبدي انزعاجه من الأسلوب «المحاضراتي الجافّ» في أغلب الدروس. سيُفصِح عن هذا الانزعاج في إحدى محاضراته، وربما حبّ البحث والإبداع في الترجمة والكتابة دفعه إلى القول لزوجته بكل وضوح: «أنا باحث، ولا بدّ لي من مواصلة الدراسة، ليس لديّ وقت للاهتمام بك، أرجو أن تفهمي ذلك بوضوح».
يبدأ المنعطف الأساسي للإبداع لدى سوسِكي منذ مطلع القرن العشرين أثناء إرساله في بعثة حكوميَّة إلى إنكلترا، ليبدأ بتعريف الشعب الياباني من خلال مقالات تتناول أعظم شعراء الغرب من بينهم والت ويتمان، و«من يتأمل مقالاته في الأدب الإنكليزي، يدرك كم كان متعمقاً في دراسة ذلك الأدب، وبخاصّة الشعر، وإن ظلّ محتفظاً بنظرة نقدية واضحة إزاءه»، ليعود إلى بلاده ويعمل أستاذاً للأدب الإنكليزي في «الجامعة الإمبراطوريَّة»، ويستقيل متفرغاً للكتابة المتسلسلة ضمن الصحافة.
يقودنا الكتاب في رحلة للاطلّاع على معلم الرواية اليابانية، ياسوناري كاواباتا (1899 – 1972)، الذي كان أول ياباني ينال «نوبل الآداب»، ومن بين أهمّ من نجحوا في تقديم الأدب الياباني إلى العالم، بدءاً من كتابه: «يوميات فتى في السادسة عشرة»، و«راقصة إيزو» التي كتبها وهو في السابعة والعشرين من عمره، وصولاً إلى «العاصمة القديمة» و«سرب طيور بيضاء».
استفاد كاواباتا من تيار الوعي في الغرب من أمثال جيمس جويس وفيرجينيا وولف، غير أنّه لم يستطع التخلّي عن تراث اليابان. وبنحو خمسين سنة من الإبداع، مضى كاواباتا دؤوباً في صنع الجمال القَصصي والروائي على حدٍّ سواء، مؤسساً تياراً فكرياً جديداً سمّي: «تيارات فكرية جديدة». وعلى الرغم من أنّ انتحار الروائي الياباني يوكيو ميشيما قد هزّ وجدان كاواباتا، إلّا أنّ غيوم الانتحار حامت حول طريقة وفاة الأخير لتثار حول موته العديد من الأقاويل وصلت إلى حدّ القول أنّ كاواباتا ربمّا قد انتحر، حيث وُجِد ميتاً في منزله بسبب تسرّب الغاز يوم 16 نيسان (أبريل) عام 1972.
يسهب الكتاب في سرد تفاصيل يومية غائبة عن حياة أبرز الروائيين اليابانيين، وتعرّضهم لمتاعب خلال حياتهم، سواء من ناحية الفكر أو من الناحية الاقتصاديَّة.
وفي المناقشة ما قبل الأخيرة ضمن الكتاب، يُسلّط كنعان الضوء على الياباني المتميز بخياله العبقري تانيزاكي جونْئِتْشِرو(1886 ــ 1965). صاحب رواية «التاريخ السريّ لأمير موساشي»، بقي مفتوناً بالحداثة الغربيَّة حتّى سنّ الأربعين، وترك ما يقارب 30 عملاً موزعاً ما بين قصة قصيرة ورواية وترجمات، بالإضافة إلى «إسهاماته المبكّرة في إعداد بعض نصوص السينما الصامتة».
ينتهي الكتاب عند أُووِه كِنزابُرو (1935)، صاحب رواية «الصرخة الصامتة» الذي حاز «نوبل للآداب» في خريف عام 1994. يعتبر كِنزابُرو «من أهمّ الكتّاب في العالم خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ولعلّه يوازي بإبداعه ومواقفه أهميّة ماركيز في أميركا اللاتينيَّة.
ولعل أهم ما يدور حوله أدب هذا الروائي، هو بعبارة مختصرة مصيبتين الأولى تمثّلت بالكارثة الذريَّة، بالإضافة إلى مجيء ابنه البكر هيكاري مصاباً بتشوّه في الدماغ. أدى هذا التمازج بين الشعور الوطني والإنساني إلى تهرّب العديد من المترجمين من محاولة الخوض في ترجمة أعماله لوعورة العوالم المتضمّنة فيها.
على الرغم من إغفاله العديد من الجوانب، يسدّ الكتاب فراغاً في المكتبة العربيَّة، ويأتي كمحاولة للاهتمام بتطوّر الفنّ الروائي الياباني، وللاطّلاع على خلفيَّة كل روائي ياباني، للإفادة من الإسقاطات التي تسهم في فهم عالم الرواية اليابانيَّة وطقوسها.
صحيفة الأخبار اللبنانية