الزعيم والفرعون (نبيل عمر)
نبيل عمر
هل ثمة مسافة ما بين الزعماء والآلهة والأبالسة في بلاد العرب؟
يبدو أننا نحن العرب نتعامل مع زعمائنا كما لو كانوا أنصاف آلهة، إما نقدسهم وندور في محرابهم كالدراويش والمجاذيب وأهل الطريق، ونبني لهم أضرحة في قلوبنا، ونحرق لهم البخور والقرابين في ذكرى ميلادهم ورحيلهم.. أو على العكس، نكفر بهم ونفر منهم كما نفرّ من الشياطين والمارقين والجلادين، ونلقى بسيرتهم وأعمالهم في مقالب القمامة والخيانة، نادرا ما نراهم بشرا يجتهدون، قد يصيبون وقد يخطئون، في لحظة تاريخية معينة أو فترة ما تشكلها ظروف عالمية خاصة وحالة سياسية مسيطرة وبيئة اجتماعية سائدة وبنية اقتصادية قائمة..
هكذا نتعامل على سبيل المثال مع جمال عبد الناصر أو الملك حسين أو الحبيب بورقيبة أو ياسر عرفات أو جعفر نميري حديثا، أو مع خلفاء الدولتين الأموية والعباسية من أول معاوية بن أبي سفيان إلى المستعصم بالله قديما. لم يسلم لنا زعيم من العبادة أو الإهانة، من التقديس أو التحقير، من الاحتفاء أو الجلد، من نثر الزهور أو قذف الحجارة..
لكن بالقطع لم يثر زعيم جدلا متلهبا مستمرا كما أثار جمال عبد الناصر، الذي تهل علينا ذكرى ميلاده غدا. وقبل أيام كنا مجموعة من الكتاب والفنانين والصحافيين في رحلة عمل، وجاءت سيرة عبد الناصر عَرَضا، بعضنا رفعه إلى مرتبة الأنبياء كما وصفه الشاعر البديع نزار قباني في قصيدته الشهيرة "قتلناك يا آخر الأنبياء"، وبعضنا خسف به سابع أرض ووصمه بكل نقيصة يتصف بها عتاة الطغاة والمستبدين، الذين رموا أوطانهم في أتون مشكلات دولية وإقليمية استنزفت قواها وامتصت مواردها.
فأيهما كان عبد الناصر؟!
الملاك أم الشيطان؟ نصير الفقراء أم مستعبد الشعب؟ صانع التنمية أم صاحب الهزيمة؟ أو هو كل هؤلاء جميعا، لأنه إنسان أولا وأخيرا، فيه ضعف الإنسان وجبروت السلطان، الولع بالسلطة والإيمان بالعدل.. متناقضات كثيرة أفرزتها تجربة سياسية وطنية، نسجل مواقفنا منها كرها وحبا، قربا وبعدا، دون أن نضعها في سياق ظروفها وطبيعة مجتمعها ومناخها الإقليمي والدولي.
وبالطبع قد نختلف سياسيا حول عبد الناصر، فماذا عن التجارب الشخصية؟
كان أول وعي بـ"عبد الناصر" في أوائل الستينات من القرن العشرين، كنت أعيش في الدلتا، في قرية تبعد عن العاصمة الزاهرة 55 كيلومترا فقط.. بيوت طينية كالحة، والفقر يمرح في الحواري والأزقة التي يعلوها التراب والطين وروث البهائم..
النقود شحيحة كالمطر، والبيع والشراء في جزء كبير منه بالمقايضة، واللحوم لا تؤكل إلا في المواسم.. صحيح أنه ولا دار تخلو من دجاج وبط وأوز وأرانب، لكن للتجارة، والذهاب بها إلى سوق الثلاثاء من كل أسبوع، فهي مصدر رزق يعين على شظف الحياة الصعبة، والناس تنام بعد صلاة العشاء على الحصير أو على أسرّة مصنوعة من جريد النخيل، ويفرد الظلام الحالك جناحيه كطائر أسطوري مخيف، يطوي تحت جناحيه كل ركن وكل شبر وكل كائن يتنفس..
لا كهرباء، لا مياه شرب نظيفة، لا خدمات على الإطلاق، والمدرسة الابتدائية الوحيدة عبارة عن دار قديمة شبه متهالكة بالطوب اللبن، لا تتجاوز قاعاتها ستة فصول، وتقبل أبناء القرية والعزب المجاورة.
وفجأة ذات صيف دب النشاط وسرى خبر المدرسة النموذجية الجديدة، سريان أخبار الأفراح وليالي الذكر والإنشاد الديني، وعلت الأصوات: عبد الناصر "يبني" لنا مدرسة جديدة. لم يكن في قريتنا ـ التي لا يقل عدد سكانها عن ثلاثة آلاف نسمة ـ أكثر من عشرين متعلما، نصفهم من عائلة العمدة والنصف الآخر من الأعيان، وأغلب هؤلاء المتعلمين مدرسون أو موظفون صغار في الحكومة، وليس بينهم طبيب أو مهندس أو ضابط أو أستاذ في الجامعة.
كنا نتجمع في الظهيرة ونجري وراء بعضنا إلى مكان البناء، نتابع ارتفاعه يوما بيوم، مبنى عصري على أحدث طراز، من ثلاثة طوابق، في مدخله حديقة غناء كنا نشم روائح زهورها على بعد نصف كيلو متر في الربيع ونحن ذاهبون إليها في الصباح، وخلف المبنى ثلاثة ملاعب لكرة القدم واليد والطائرة.
في الطابق الأول مكتبة هائلة وحجرة ألعاب فيها "ترابيزة" تنس طاولة، وحجرة أنشطة للصحافة والإذاعة ومعمل علوم، وتمتد الفصول بعدها إلى الطابقين الثاني والثالث. لم أدخل مدرسة قريتي إلا في الصف الثاني الابتدائي، يوم دراسي كامل من الثامنة صباحا إلى الثالثة والنصف عصرا، وفي الحادية عشرة والنصف فسحة نصف ساعة، يوزعون علينا قبلها أرغفة العيش البلدي، وقطعة من الجبن وبيضتين وقطعة من الحلاوة الطحينية أو باكو بسكويت.
في هذه المدرسة تخرج زملاء لي، صاروا مع الزمن مهندسين وأساتذة جامعات وضباطا وصيادلة وموظفين كبارا ورجال دولة، أغلبهم أولاد فلاحين كانت أعظم فرصة يمكن أن تتاح لأحسن من فيهم، هي أن يصبح موظف درجة تاسعة.
هذا هو جمال عبد الناصر الذي يعرفه أغلب المصريين وينحازون له..