الزنوجة تعني مجمل القيم الثقافية للعالم الأسود
يعد ليوبولد سيدار سنغور أحد أهم أعمدة الأدب السنغالي وأحد أهم المفكرين الأفارقة في القرن العشرين وأول رئيس للسنغال، تعدت شهرته حدود بلاده والقارة الأفريقية ووصلت إلى العالم أجمع كونه كتب باللغة الفرنسية، وتأثر تأثرا كبيرا بالأدب الفرنسي، لكن أيضا كانت له نصوص أخرى كتبت باللغة العربية وبلغة الولوف المحلية.
وقد قام أخيرا الشاعر والمترجم التونسي جمال الجلاصي بترجمة وتقديم أعماله الكاملة ليصدر منها مجلدان الأول في 256 صفحة والثاني 294 صفحة عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر بالاشتراك مع نادي نجران الأدبي الثقافي.
في مقدمته أوضح الجلاصي أن الدارسين للأدب السنغالي يعتبرون سنغور أحد أشهر آداب منطقة أفريقيا الغربية، لافتا إلى أن الأدب السنغالي هو الفعالية التي تلمع وتشرق أكثر من سواها في بلاد السنغال. فهذه البلاد أنجبت كبار الكتاب ومشاهير المثقفين، على رأسهم سنغور، صاحب نظرية الزُّنُوجة أو الخصوصية السوداء، لكن يمكن أن نذكر أيضا: أمنياتا ساو فول، وعبداللاي ساجي، وشيخ حميدو كين، وآخرين كثيرين. وينبغي أن نذكر أيضا بيراغو ديوب، وبوبكر بورسي ديوب، وعثمان سيمبين، الذي أخرج على الشاشة بعضا من أفضل رواياته.
وفي مجال الفكر يمكن أن نذكر أعمال أنتا ديوب، ومؤلفات العالم الأنثروبولوجي تيديان ندياي، المنشورة لدى غاليمار، التي نالت شهرة عالمية. ويمكن أيضا أن نذكر أعمال الكاتبة مارياما با، التي صورت بشكل رائع المجتمع المتعدد الزوجات في السنغال، من خلال روايتها “رسالة طويلة جدا”. إنها صرخة احتجاج ضد الظلم والقهر الذي تتعرض له المرأة السنغالية. ونذكر أعمال أميناتا ساو فول، وروايتها الشهيرة “إضراب الشحّاذين”. وكذلك أعمال فاتو ديوم التي اشتهرت بروايتها “بطن الأطلسي” حيث تصور فيها بشكل مؤثر أحلام الشباب السنغالي، الذي لا يفكر إلا في الهروب من البلاد والهجرة إلى أوروبا. لكن يبقى صحيحا أن هذا الأدب نال شهرة عالمية من خلال الشخصية الاستثنائية لرجل الدولة والشاعر سنغور.
وقال إن سنغور ولد في 9 أكتوبر/تشرين الأول 1906 في مدينة شاطئية صغيرة تقع جنوب العاصمة داكار. وهو ينتمي إلى قبيلة قريبة جدا من الطبيعة، إحيائية ومسيحية في آن واحد، بمعنى أنه تختلط في عقائدها العناصر الإحيائية والعناصر المسيحية. والإحيائية هي أقدم الديانات الأفريقية. وهي تعتقد بوجود روح أو قوة حيوية تحرك جميع الكائنات الحية، وكذلك تحرك عناصر الطبيعة كالحجارة والريح.. وكان أبوه تاجرا ثريا، لذلك فقد عاش حياة سعيدة من دون مشكلات. وقد كبر وترعرع في مناخ مليء بالحكايات والقصص الشعبية، حيث كان الكبار يروون على مسامعه حكايات مليئة بالعجيب المدهش والساحر الخلاب. وقد أثر ذلك عليه وملأ خياله وغذّاه، وربما كان السبب في إبداعه الشعري والأدبي لاحقا.
وأضاف أن سنغور سافر لباريس 1929 لإكمال دراسته، كما كان يفعل أبناء البورجوازية السنغالية والعربية والأفريقية في ذلك الزمان. وعندئذ عاش 16 عاما من الشرود والضياع. وهي سنوات ضرورية للإبداع، فلا إبداع من دون ضياع، من دون شرود وحرية فوضوية، على الأقل في البداية. وأثناء دراسته التقى بجورج بومبيدو، الذي سيصبح رئيس فرنسا لاحقا، مثلما سيصبح هو رئيس السنغال. وحصلت بينهما صداقة. لكن اللقاء الأهم فكان مع الشاعر المارتينيكي إيميه سيزير. وقد جسد سيزير هذه العلاقة بعبارته شهيرة “ليس لون البشرة هو ما يوحدنا، لكن المثالية في الحياة والتعطش إلى التحرر هو ما يجمعنا”.
ومن خلال النقاش معه انفتحت عيناه على حقيقة الشعب الأسود وضرورة تحريره من القهر والعبودية والظلم التاريخي. وأسس معه في العام 1934 مجلة ثورية احتجاجية باسم “الطالب الأسود”. وعلى صفحات هذه المجلة راح يبلور مع صديقه مصطلح الزنوجة أو الخصوصية السوداء لأول مرة. يقول إيميه سيزير في تعريفه “إن الزنوجة تعني بكل بساطة الاعتراف بحقيقة الإنسان الأسود كما هو. إنها تعني قبولنا بوضعنا كسود، نختلف عن البيض بالضرورة، وبالتالي القبول بقدرنا التاريخي وثقافتنا”.
أما سنغور فيقول موضحا “إن الخصوصية السوداء تعني مجمل القيم الثقافية للعالم الأسود، كما تتجسد في الحياة المعاشة والمؤسسات والإبداعات الناتجة عن الإنسان الأسود. فهل يعني ذلك التعصب الأعمى للسود ضد البيض؟ أبدا، لا. فسنغور لم يكن عنصريا أبدا، ولا إيميه سيزير كذلك. وكيف يمكن لشاعر كبير حساس أن يكون عنصريا؟
ورأى الجلاصي أن سنغور اشتهر ببلورة مصطلح الخصوصية الزنجية. وقد بنى عليه كل نظريته الفلسفية، حتى السياسية. وهو يقصد به أن لأفريقيا السوداء خصوصية، تميزها عن بقية الشعوب والقارات. فالإنسان الأسود أو الزنجي شخص يعيش على الحواس والعاطفة والانفعال بالدرجة الأولى، وليس على التحليل العقلاني للأمور. ولا يعني ذلك أنه شخص مضاد للعقل أو خال من العقلانية، فهو يعني أنه عاطفي قبل أن يكون عقلانيا. أما الإنسان الفرنسي أو الأوروبي عموما فهو شخص عقلاني، بارد، موضوعي بالدرجة الأولى. إنه إنسان ديكارتي.
وأشار إلى أن سنغور كان يؤمن أنّ على الإنسان “أن يستنشق هواء القارات كلِّها”. وقد شكِّل هذا الفهم قناعة جوهرية رافقته في إضاءة مسيرته الثقافية. فهو مؤمن بأنه ليس هناك حضارة واحدة، بل حضارات. وإذا كان ثمة حضارة إنسانية فهي حضارة جدلية، انطلاقاً من أن كل شعب، كل عرق، كل قارة، تقدِّم مظهراً فريداً من مظاهر الحضارة؛ وهو مظهر غير قابل للطمس أو الإلغاء أو التبديل. لذا حمل شعرُه على الدوام الإحساسَ بأن المرء لا يستطيع الانغلاق على ماضيه ولا إطالة الحاضر، لأن الركود الثقافي والنقاء العرقي هو الموت – وذلك شبيه بالمياه الراكدة. فإذا أراد الشعب أن يعيش ويكبر عليه أن يغتذي و”يهضم” الأغذية الخارجية والوافدة. وهذا ينخرط لديه في عملية التهجين الإنساني والثقافي والحضاري واللغوي. لكنه لا يلبث أن يستسلم، في اللحظات الحاسمة، لروحانيَّته الزنجية التي تحمله على الاعتراف بوحدة العالم، والعمل في ضوء هذا الاعتراف. لهذا يمكننا أن نرى أن فلسفته الأفريقية تظل تأملاً في الكائن وفي علاقات المواجهة والمشاركة والتواصل. مثلما يمكننا أن نرى هاجس الشاعر الدائم في إظهار ديالكتيكيَّة الوجود والمعرفة.
ورأى الجلاصي أن شهرة سنغور تعدت حدود بلاده إلى حد كبير، ووصلت إلى العالم أجمع. وربما كان ذلك عائدا إلى أنه يكتب بلغة عالمية، هي اللغة الفرنسية. لكنه كان يعبر عن أعماق الشخصية الزنجية الأفريقية. واستخدامه للغة الفرنسية لم يكن تبعية للاستعمار، كما ظن بعضهم، إنما عبارة عن تعلق بهذه اللغة، التي أنجبت كبار الفلاسفة والأدباء والشعراء على مدار التاريخ. فالجزائري كاتب ياسين كان أيضا ضد الاستعمار، لكن هذا لم يمنعه من كتابة أعمال أدبية رائعة بلغة فولتير وفيكتور هيغو. وكان يعتبر اللغة الفرنسية بمثابة “غنيمة” أخذناها من الاستعمار بالدم”.
وأوضح أن هذا الدم الأفريقي الحار، دم الجذور الضخمة والعميقة والمتشعبة في التراب ودم الآباء والأجداد الذين يتحولون بعد الموت إلى آلهة تشارك من وراء الأبدية في تدبير شؤون القبيلة، ودم الأناشيد الاحتفالية والإيقاعات الزنجية على الطبول، والرقصات التي تأخذ أصلها من طبيعة الغابة وأصوات الحيوانات، وحركات الأجساد الحرة العارية. ودم الطواطم والأقنعة والصلوات. ودم صراخ المعذبين والمضطهدين في الأرض. دم الحرية المهدور. من هذا الدم بالذات صنع ليوبولد سيدار سنغور أشعاره. إنها إذن أشعار الزنوجة بكافة سحرها وخوفها وعذابها وإيقاعاتها.
والزنوجة في أشعار سنغور إيقاع. الإيقاع في هذا الشعر أبعد من توازنات نغمية وموسيقية وشكلية. الإيقاع روح هذه الأشعار، والإيقاع الزنجي في شعر سنغور بمفهومه السحري والمكاني والموسيقي، إن الإيقاع الزنجي لأشعار سنغور هو حضور الروح الكلية المبدعة. الإيقاع إيقاع المناخ والمكان، الحرارة والسحر واللون الأسود، الأسلاف والأقنعة والجوع والخوف، الرقص والموت.. وهو انبثاق موسيقى من داخل المأساة ومن أنات الصوت والجسد معا، كما تتجلى في الرقص والموسيقى والشعر.. في الحركات كما في الغناء وفي الأقنعة كما في أصوات السحرة. الإيقاع في شعر سنغور ينطوي على أخاديد أفريقية، وانبثاقات ذات تهاويل سوداء وخرافات وشغف لا واع بالموسيقى والحركة. إنه حيوية دافقة من أصول الحياة البدائية وجذور الغابة السوداء واعتمالات الجسد الأسود الحي. وهو ما يصب مباشرة في الحواس.
وأكد الجلاصي أن الشعر عند سنغور يجب أن يسمع كما الموسيقى، فهو ميت على الورقة ما لم تبعثه الأصوات إلى الحياة، تماما مثل الموسيقى. وهى خاصية أفريقية الامتياز. فما أن “تسمى شيئا في أفريقيا، حتى ينبعث المعنى المختبئ تحت الإثارة،. ومن هنا فإن شعر سنغور أو سيزر ضروري لنا، بنفس القدر الذي كان فيه ضروريا للفرنسيين في الخمسينيات والستينيات، وللإنجليز الذين اكتشفوه متأخرين، لأن هذا الشعر، يكشف لنا كيف يشارك “الوعي الأفريقي” بفعالية في أشياء الحياة، وفى الطبيعة، بحيث يستطيع أن يربطنا، أو يعيد ربطنا، بحياة الجماعة، من خلال الشعر، وبمساحات مفقودة من التجربة. ولغير ذلك سيبقى فهمنا للحياة قاصراً، وكذلك شعرنا. إن الأجانب يعرفون من سنغور شعره وثقافته الإنسانية الواسعة، أكثر مما يعرفون سياسته، التي اتبعها لتطوير السنغال وإخراجها من جحيم التخلف. ويمكن القول إنه يحتل بسبب ذلك مكانة خاصة بين قادة أفريقيا الكبار في القرن العشرين.
إن الحديث عن مشروع شعري متماسك ونسقي لدى سنغور نتج عن إرادة صلبة اِنتهجها الشاعر ليبْني نصباً شعرياً هو نصب أفريقيا السوداء بامتياز. ولعل كلمة “الزنوجة” تختصر هذا الطموح، الزنوجة بصفتها كينونة وجودية وشعرية ومشروعاً إنسانياً وحضارياً. غير أن هذه “الزنوجة” لن تظل في منأى عن اللغة أو الأسلوب الشعري. فالشاعر طالما اضطلع بمهمة إحياء الأسلوب الزنوجي المشبع بالطرافة والفنتازيا، علاوة على طابعه المأسوي والرثائي والنشيدي. ولعل هذا الأسلوب الزنجي هو سليل الشعر الأفريقي الشفوي الذي تأثر الشاعر به وغرف من ينابيعه. وكان على سنغور أن يحمل إلى اللغة الفرنسية بعض المفردات والتراكيب والصور والمجازات التي لم تعهدها تلك اللغة، ناحتا إياها في أحيان أو مترجما إياها أو ناقلا إيقاعها لفظا وصدى.
وكان يحلو للشاعر أن يعدد مظاهر أو مبادئ الأسلوب أو اللغة الزنجية ومنها: إيثار الكناية أو المجاز المرسل، استحسان الإيجاز، اعتماد مبدأ التجاور، التكرار.. ويرتكز مفهومه للصورة على اكتشاف قدرات الكلمة الشديدة الحضور في حضارة قائمة على الشفوي.
يقول سنغور “الكلمة في اللغة الأفريقية هي أكثر من صورة. إنها صورة تماثلية لا تحتاج إلى المجاز أو التشبيه. ويكفي أن يشفى الشيء حتى يتبدى المعنى تحت العلامة. فكل شيء هو علامة ومعنى في الحين نفسه بالنسبة إلى الزنوج – الأفارقة “.
ومن خصائص القصائد التي كتبها سنغور أيضا ذلك الإيقاع الذي استخدمه سواء عبر اعتماد اللعبة الإيقاعية الفرنسية أم عبر استيحاء الإيقاعات الأفريقية المختلفة التي ظلت تصخب في ذاكرة الشاعر وفي أذنيه. وفي بعض القصائد لم ينثن عن تسمية آلات موسيقية أفريقية وكأنه يحاول استدعاء إيقاعاتها وأنفاسها وضرباتها داخل اللغة الفرنسية نفسها. يحتاج سنغور إلى أن يُقرأ كشاعر مرة تلو مرة، كشاعر أفريقي يكتب بلغة فرنسية بهية وكشاعر فرنسي عرف كيف يجد “إكسير” العبارة ليمارس سحره على لغة هي لغته الأم وغير الأم في وقت واحد.
وختم الجلاصي بما قاله الشاعر الأفريقي إدوارد مونيك الذي يعتبر من تلامذة سنغور “نحن لا نحتاج إلى أن نعود إلى سنغور، فهو هنا دوما”. سنغور شاعر الزنوجة، شاعر القصيدة الإنسانية، شاعر المراثي والمآسي، شاعر الطرافة و”الهجانة”.
من أهم دواوين سنغور: أغنيات الظل، وقرابين سوداء، ومراثي كبرى، وأثيوبيات وليليّات. ومن كتبه الفكرية نذكر: مختارات من الشعر الزنجي والملاغاشي الجديد باللغة الفرنسية، الخصوصية الزنجية والنزعة الإنسانية، الأمة والطريق الأفريقي إلى الاشتراكية، الخصوصية الزنجية والحضارة الكونية، حوار الثقافات.
ميدل إيست أونلاين