السؤال المعلّق .. من قتل أسمهان؟
يروي الكاتب الصحفي فوميل لبيب على لسان فؤاد الأطرش الشقيق الأكبر لفريد وأسمهان الأطرش قصة “أسمهان” انطلاقا من سيرة أسرة كانت حياتها سلسلة من المحن، حيث كان عاهلها أميرا يتقلد مقعد الزعامة والسلطان في جبل الدروز، تولى أكثر من منصب قيادي في زمن الامبراطورية العثمانية ثم زمن الاحتلال الفرنسي للبنان، الأمر الذي عرض الأسرة لمخاطر عديدة انتهت بها إلى مصر تكافح من أجل البقاء، ليدخل بنا إلى حياة أسمهان فنانة ومطربة وسياسية وشخصية متمردة لها علاقاتها المعروفة في الأوساط السياسية والإعلامية والفنية حيث كانت ملء السمع والبصر في مصر والعالم العربي كله، وهي حياة لا تختلف في تقلباتها ومحنها عن حياة الأسرة، فما أن بدأت خطواتها الأولى نحو عالم الطرب والفن حتى أرغمها أخاها ـ راوي القصة ـ على الزواج من الأمير حسن الأطرش، فأدخلها الزواج معترك السياسة، لتنفصل وتعود إلى حريتها كمطربة وفنانة، وتتزوج وتطلق مرة أخرى، لتعود لمعترك السياسة.. وهكذا.
الرواية التي صاغها لبيب بأسلوب سردي ممتع ومشوق، حتى ليبدو أنه يكتب رواية خاصة من تفاصل حياة أسمهان وأسرتها، بادرت دار الجديد بإعادة طبع نسختها الأصلية دون إضافة أو حذف، والتي لم يتم إعادة طبعها منذ صدورها في بيروت في سبعينيات القرن الماضي، ولم يلتفت إليها أحد على الرغم من أن الكتابات لم تتوقف عن محاولة قراءة وتأويل وتفسير التفاصيل الدقيقة لسيرة أسمهان الفنية والسياسية والشخصية الخاصة، ختاما بحادثة وفاتها التي أثارت – ولا تزال تثير – التساؤلات، ففي أثناء سفرها إلى رأس البر صباح الجمعة 14 يوليو/تموزز 1944 ترافقها صديقتها ومديرة أعمالها ماري قلادة، فقد السائق السيطرة على السيارة فانحرفت وسقطت في الترعة، حيث لقت مع صديقتها حتفهما أما السائق فلم يصب بأذى وبعد الحادثة اختفى، وبعد اختفائه ظل السؤال عمن يقف وراء موتها دون جواب.
ترسم الرواية عبر الكثير من المواقف والأحداث وتفاصيل العلاقات الخاصة والعامة في الفن والسياسة وغيرها، ترسم لأسمهان صورة شخصية تؤكد على أصالة موهبتها وعبقريتها كمطربة وفنانة، وتعتز بذاتها وشخصيتها وكرامتها وأصولها، طموحة وكريمة حد الإسراف والسفه ومترفعة عن كل دنيئة يمكن أن تنتقص من اعتزازها بنفسها، شخصية عصية على التقييد، تواقة دائما إلى الحرية.
يعلن فؤاد الأطرش صاحب الرواية أن وراء قيامه بسرد سيرة أسرته وتحديدا أخته المواقف التي وقفها عدد من الصحافيين بعد وفاة شقيقته أسمهان “أمل أو آمال الأطرش” وإذاعة ما أذاعوه من أمرها، وإشاعة ما أشاعوا من سيرتها “كان لهاتيك المواقف المدمرة أثر سيء، بالغ السوء في تشويه أعمالها وتلويث سيرتها، وذكر أشياء ملفقة هي من نسيج الخيال، أو الحقد، أو الكراهية، أو الطمع في الكسب من طريق التعرض لذوي المواهب، والتحدث عن عن النابغات والنابغين. وأكبر دليل على أن تلك الروايات والأحاديث نسجت في الظلام، وبوحي من نفوس مظلمة، أن مروجيها وكاتبيها تخلوا عن حقيقتهم وتحللوا من تبعاتهم، فلم يذكر أحد منهم اسمه الصريح، بل كانوا يتوارون جميعا خلف المجهول”.
يتتبع فؤاد سيرة الأسرة من جبل الدروز إلى ديمرجي فبيروت ودمشق هروبا إلى القاهرة بعد ثورة الدروز وسلطان الأطرش على الفرنسيين، لتبدأ في القاهرة حياة الفقر والعوز حتى ينقذها المليونير الأميركي البارون إيكرين الذي عرض على الأميرة علياء المنذر تبني أولادها والسفر لأميركا ليعيشوا جميعا في قصر يخصصهم لهم، لكنها رفضت فاقترح أن يرسلها لها مائة دولار شهريا فوافقت، الأمر الذي مكنها من حفظ وحماية أولادها.
وتبدأ مواهب الغناء تتجلى على الصغيرين فريد وأمل، بعد أن أصبح بيت الأسرة قبلة لكبار الموسيقيين والملحنين فريد غصن وزكريا أحمد وداوود حسني ومحمد القصبجي، هذا الأخير الذي وصف صوت أسمهان عندما سمعه للمرة الأولى بـ “صوت من الجنة”. لقد قدرت الأم أصالة موهبة ولديها فدعمتهما بالتقرب من رواد الموسيقى والغناء وقتئذ، وهيئت لهما المناخ لصناعة مجدهما.
ويبدأ فريد يتجه للدراسة والغناء بين معهد الموسيقى العربية ومحطات الإذاعات الأهلية، وهنا يقول فؤاد “بدأت معالم الطريق تتضح وتبين. وسهرات الموسيقيين عند فريد لم تعد مجرد حفظ ألحان أو ترديدها أو تناقل الأخبار عن محطات الإذاعة والأهلية ومهازلها. إنما صار للحديث مدار جديد تركه فريد ينمو مع الليالي. كان المدار أمل فالإجماع انعقد رائعا على أنها موهوبة، وكان لا بد من قول فصل يصدر في هذا الموقف ليعرف فريد أي طريق يمكن أن تضع أمل قدميها عليه. وكان ينبغي أن يصدر القول الفصل عن ذي تجربة تتفوق على كل تجارب المترددين على بيت الأسرة الفنانة ولم يكن هناك غير داود حسني”.
يسمع داود حسني صوت أمل ويرى فيه صوتا خارقا ويقرر أن يعلمها ويطلب تغيير اسمها لـ “أسمهان”، هكذا البداية حتى كان “يوم طرق الباب طارق ونقل أمل من مرحلة في حياتها إلى مرحلة.. كان مدير شركة كولومبيا وقد أقبل في مجموعة من الموسيقيين: زكريا أحمد والشيخ محمود صبح وداود حسني وفريد غصن والقصبجي، وجلسوا كأنهم لجنة امتحان حول أمل يستمعون إليها، ومدير الشركة لا يفهم معنى الغناء ولكنه أخذ بالصوت. فلما أفتوا بالاجماع بأنها عظيمة وقع المدير مع أمل عقدا بتسجيل خمس عشرة أسطوانة مقابل 20 جنيها للأسطوانة الواحدة”.
منذ ذلك اليوم كما يروي فؤاد سوف تغني أمل أو أسمهان ويستمع الناس لها كما يستمعون لأمل كلثوم وتزامل أخيها فريد وتلازمه بعد أن أصبح مطلب الملحنين كبارهم وصغارهم، مشهورهم ونكرتهم، بل سوف تغني على مسرح دار الأوبرا المصرية، ولم تكمل بعد عامها الخامس عشر، لتغني وتبدع ويصفق الجمهور ويستعيدها فتعيد وتطرب.
وتلفت رواية فؤاد إلى علاقة أسمهان التي بدأ للتو سطوع نجمها بأم كلثوم “أحب الناس إلى أسمهان كانت أم كلثوم. وكانت أم كلثوم تزور الأسرة فتتوسل إليها أسمهان أن تغني وتجلس على السجادة عند قدميها وتسمعها بكل جوارحها. ودعاها محمد عبدالوهاب مرة في قصر السيدة زبيدة شهاب، وشهد اللقاء فريد الأطرش وكامل إبراهيم الذي كان أشهر عازفي القانون في ذلك الحين.
ويعترف فؤاد بأنه وراء زواج أسمهان من ابن عمه حسن الأطرش، وأن ذلك تم بدافع من تقاليد وعادات الدروز، حيث خاف على أخته أولا من أن تعمل بالسينما بعد أن سطع نجمها كمطربة، وثانيا من أن تغرم وتتزوج من خارج نطاق الدروز، فيسافر إلى أبيه فهد الأطرش دون علم من والدته وأخوته ليعرض الأمر عليهم، ويخشى أن يصارح أباه بالأمر فيبوح به لابن عمه الذي يبادره بأنه سوف يتزوجها هو، لتبدأ الاستعدادات.
تنقلب أحوال الأسرة رأسا على عقب، وترضخ للضغوط التي فرضها فؤاد، وتستسلم أسمهان بشروط أولها أن تسكن دمشق، وثانيها ألا تلبس الحجاب، وثالثها أن تصحب معها فؤاد عوضا لها عن أمها، ورابعها أن تقضي شتاء كل عام في مصر. لكنها سرعان ما تتنازل عن شرطيها الأول والثاني وتذهب للعيش في الجبل لتلعب دورا إلى جانب زوجها في مهادنة الفرنسيين لتحصل لقومها على ما يريدون بالكلمة الطيبة، ولم شمل أبناء العمومة والخوؤلة تصفي القلوب مما فيها من حزازات قديمة أو جفوات مائلة، ليرتفع نجمها في السويداء عاصمة الجبل.
لكن روح الحرية والفن وعبقريته في أسمهان تحول دون استمرارها، بالإضافة إلى أنها لم تعد ترى في زواجها إلا مصالح مشتركة، وتواجه زوجها “لن أعود إلى الجبل يا أمير. إنني تزوجت نزولا على مشيئة فؤاد الذي سلط على رقبتي سيفا، وحاولت أن أحبك لأعيش حياة هنيئة وعملت معك، وتعبت معك وسهرت معك. معذرة لا أريد أن أمنّ عليك بما كان، ولكني أجزم أنني لم أنس فني. كان استماعي إلى أسطوانة يثير جنوني. أما أخبار الغناء وفريد وأم كلثوم فهي أحب إليّ من كل شيء. أحب إليّ من أخبار الفرنسيين والدروز والمعارك.. صدقني هذه هي الحقيقة”.
ويواصل فؤاد روايته متغلغلا في حياة أسمهان التي ما أن وصلت إلى القاهرة حتى أحست أنها كانت سجينة وحصلت على حريتها، لتبدأ حياة يلخصها فؤاد قبل أن يدخل في التفاصيل في تساؤلاته “هل ترى إلى الطفل يحرم من ثدي أمه فإذا عاد إليه عاد وبه سعار؟ ثم هل ترى إلى بخار يحتبس في إناء ثم من طول الاحتباس يندفع في انفجار؟ وهل ترى إلى مدمن الكأس نأت عنه ولاحت فجأة فاندفع إليها بجميع الحماسة ولهفة الشوق ومنى اللقاء؟ هكذا كانت أسمهان حين عادت إلى الحرية..”.
ويروي فؤاد حكايات أسمهان بعد أن تقرر الاقامة في فندق مينا هاوس من شرب الخمر ولعب القمار وبذخ وسفه في الإنفاق بعد أن اجتمع إليها أصدقاء وصديقات كانوا يغرونها بكل نزوة ـ وفقا لفؤاد ـ وسط محاولات لإعادتها لرشدها. في الوقت الذي تتوسع فيه دائرة معارفها داخل أروقة النفوذ الاقتصادي والسياسي والاجتماعي وقصور الأسرة الملكية في مصر.
ويكشف فؤاد أنه أول من كاشفته أسمهان بالمهمة التي اختارتها لها المخابرات البريطانية في الشرق الأوسط لإقناع زعماء جبل الدروز بعدم التعرض لجيوش الحلفاء إذا بدأت هذه الجيوش احتلال سوريا، وفي حوارهما وردا على سؤاله الاستنكاري “يعني جاسوسة” قالت أسمهان “لست جاسوسة. أكون جاسوسة إذا كنت أخدم قضية ينصرف غنمها إلى وطن غير وطني، أما أن أسعى إلى أهلي وأقنعهم بأن سكوتهم يبقي على حياتهم. أما أن أعرف مواقع المحتلين في بلادي فأسلمها إلى أعدائهم وأجنب قومي ويلات الغارات وهجوم الدبابات وطلقات المدافع فهذا غنم سينصرف إلى أهلي أولا، ويفيد منه الحلفاء بعد ذلك”. وزادت “لست جاسوسة يا فؤاد لأن سلامة قومي هي التي تملي عليّ ما أنا مقدمة عليه”.
إن رقابة فؤاد ومحاولاته تقييد حرية أسمهان باعترافه أخذت أشكالا كثيرة، وباءت جميعها بالفشل، لكن هذه المهمة الاستخباراتية شكلت مرحلة مختلفة في حياتها، مرحلة محفوفة بمخاطر جمة، وربما تكون أحداثها وتفاصيلها التي يكشف عنها فؤاد هي ما دفعه بالنهاية إلى طرح نفس التساؤلات التي طرحتها وتطرحها الصحافة إلى الآن حول مقتلها، يختم فؤاد بهذه التساؤلات:
هل قتلوها؟
ومن هم الذين قتلوها؟
قد يكون الملك فاروق هو الفاعل.. إن أسمهان تعرف من أسرار أمه حين كانت في فندق الملك داود الشيء الكثير. فهل قتلها ليطوي معها الفضائح إلى القبر؟
قد يكون العاشق المجهول الذي حاموا حوله بالشبهة والتلميح، وقد مات في سيارة كما ماتت، وعند الماء كما كانت نهايتها، قتلها قبل أن تتضح أمره معها عند عشيقته الأخرى؟
وقد يكون الانجليز والفرنسيون.. إنهم حاولوا قتلها من قبل، في بيروت مثلا، ففي صدرها أسرار وأسرار وينبغي أن تقضي خزانة الأسرار؟
وقال قائل: بل قتلها الأمير حسن بالاشتراك مع فؤاد. داست الأصول وهوت بالمعول على الشجرة العريقة فحق عليها القتل؟ قالوا وقالوا وقالوا، ولكن الأقدار أقوى من كل هؤلاء وهي التي قالت كلمتها وأصدرت حكمها”.
ميدل إيست أونلاين