السادس عشر من أيلول 1982
لم ندرِ، أن تاريخ البلاد، سيرتبط بالحركة المخطأة هذه. قيمة التجربة الوجودية، من ذاتها. ليس ثمة ما يدل على أن القتل بالطريق إلى ملكات الروح. السادس عشر من أيلول ليلاً، ألصق نفسه على حيطان المدينة. لا شيء سوى الليل. ودعنا المقاتلين الفلسطينيين، في ملعب بيروت البلدي وبمنطقة المرفأ. انتظر الإسرائيليون وحلفاؤهم من اليمين اللبناني ذلك. انتظروا مقتل بشير الجميل، حتى يكتبوا التاريخ بالمقلوب. لا شيء، سوى ثقل الهواء والألوان الغريبة فيه.
هنا، في «السفير» أثبتت قلة قليلة حياة أخرى. انحدر العالم، تلك الليلة، إلى كعب العالم. صعدنا، إلى سطح مبنى الصحيفة، بمنظار مكبر، اعتدنا استعماله لتحديد مربعات القصف. ذلك أن الإسرائيليين، قسَّموا بيروت مربعات مربعات. يطاول القصف مربعاً بليلة وآخر بليلة أخرى. لم يتح لنا التجوال ليلتها، حين راحت البلاد إلى أنواع أخرى من الحروب والأصوليات المختلفة والاستعمار الجديد. بيروت اليوم كالقدس المحتلة، شهدت عصفاً تغييرياً، لم تعجز عن مواكبته أو مواجهته، بالحد الأقصى. القنابل المضيئة، تسقط بالمظلات، فوق المخيمات، هذا كلام تقدير، التقدير هو السائد. إذ إن الأخبار المتواترة إلى الصحيفة البيروتية العريقة، لم تنفِ شيئاً ولم تؤكد شيئاً. الأخبار متوترة، نقطة على السطر. أثر التوتر في حركة جوزيف سماحة، وسائطه في مواجهة الحرب والتوتر كثيرة، واحدة منها لعبة «الريسك». نتحلق حول الرقعة الملونة، ونرمي النرد، بحيث يقيض لنا أن نحتل الأرض على الورق، وسط الأرض المحتلة من العدو الإسرائيلي، والأصوليات الجديدة، على أبواب المدينة. تلك أوقات لا نهائية. أكلنا من «اللامب هاوس» ما توفر، غير أن إلحاحاً يشبه إلحاح طفلة، دفع إلى ترك رقعة الحرب الافتراضية، إلى الحرب الواقعية، بالخارج. الإحساس بالهزيمة، «زوم» مر. أمر «الأزوام»، إلا مع جوزيف سماحة، ملك قص السطور وإلصاقها على نوافذ المدينة المحتلة. ملك البيت، ومتعلقات البيت وأشيائه. لبنان واحد من بيوت جوزيف سماحة. البيت ليس استعارة فنية هنا. البيت رحم هائل من حيوات هائلة، سائلة، من حيوات ماضية.
وسط المقاطع الصوتية لمدفعية بعيدة وقريبة، بدا أن الفضاء الإنساني لبيروت يسقط على ناسه. لا شيء سوى الفراغ، وما تبقى من حياة في المدينة المنذورة لأكبر المواضيع والوهلات. كفاية أن يتوتر جوزيف، حتى نتأكد من أن ثمة جرداً، تطرزه البنادق والخناجر الخافتة، على رقاب الفقراء وبطون الحوامل وأصوات الأطفال المؤرشفة بالذعر، أبشع صور القتل والاغتصاب.
عندما ادركت أن جمال المدينة أعزل، عرفت أن الجنسيات المنتهكة الاتفاقات الدولية، بعدم الدخول إلى المخيمات، تم تفخيهها بالموت. لم أكن بحاجة إلى النظر من أباجورات الصحيفة، حتى أتيقن من أنها باتت بسعة كاملة وبحضور نادر. اختفى جوزيف من الصحيفة، كما اختفى آخرون. جاء العديد من الناس، بأخبار لا تطمئن. الفلسطينيون واللبنانيون يذبحون في مخيمي صبرا وشاتيلا.
يظن كثيرون أن المخيمين مخيّمان، لا شيء من ذلك، رقعتان ترابيتان متصلتان، لا أكثر. الأصوات المبهمة بالشوارع، كلمات سر جديدة. لم يخف ناجي العلي، على نفسه، خاف عليه الآخرون، رسام الكاريكاتير الفلسطيني، جاء من المخيم الفلسطيني بصيدا إلى بيروت بسيارة مستأجرة يستقلها ويتركها تحت الحاجة. يتركها عند الحواجز الإسرائيلية، ثم يعود ويستقلها وهكذا، بالطريق إلى «السفير». وصلها بهويته، حانقاً من الجنود السامحين بمروره، لأنه «عمٌ» بشعره الأبيض المجعد. يربط الزمن العام، العلي بسماحة. تربطهما علامات قياس الزمن الخاص، بغير مسطرة. يأكلان ويشربان سوياً. يجتمعان على طاولة البوكر مع عدنان الحاج وفيصل سلمان ومحمد بنجك ومحمد مشموشي. جماعة تحت سطوة نهاية مرحلة. مرحلة قاسية، غير أن أحداً لم يهبها.
بدون رخاوة أخلاقية، قاد جوزيف سماحة ناجي العلي بالقوة بطرقات المنطقة، حتى لا يترك الرجل معلقاً بفضاء الظرف الراهن، أخذه إلى بيت مارون بغدادي، المخرج السينمائي الراحل، تركه هناك، بعد أن أقفل عليه بالمفتاح. بجيب سماحة أكثر من مفتاح، كل مفتاح أشبه بالحازوقة، من استعماله في خدمة الآخرين. كل من لا يمتلك ملجأ، ملجأه جوزيف سماحة. رجل خليق بإعلان النهايات والبدايات.
تحت الضوء والروائح والدخان، مشى جوزيف أمام ناجي، بخطة لا علاقة لها بعجرفة الإسرائيليين وعناصر القوات اللبنانية، أصحاب الألحان الجنائزية، الـ»بلا» أية ميزات جمالية. لا شيء يترجم الحاضر، الـ»بلا» مخرج، سوى كل ما هو عاطفي وأخلاقي. ارتفع ناجي العلي إلى مأتمه، حين أُخبر بالمأتم الجماعي للفلسطينيين. تركه جوزيف بالبيت، لكي لا ينتفع أحد الجزارين، من قنص أهم فناني الكاريكاتير بالعالم. أغلق عليه الباب بالمفتاح، وعاد إلى قراءة انعكاس المجزرة، على الأوضاع اللبنانية والعربية، بمؤلف من مؤلفات تبقى صالحة لقراءتها من الأجيال الآتية. وجد الرجل أن من الضروري، أن لا يعرف أحد أي شيء عن ناجي. نوع من السفر الخاص، بالصحافي ذي الشخصية المركزية، بالأحداث اللبنانية. لم يرد، حين سألته عن الانقلاب الديمغرافي بالصحيفة خلية. ثم، هدوء يعود بنفسه على نفسه بالهدوء. لن يعمل جوزيف، إلا على حماية الناس. نفى ناجي بالليل، إلى حيث لا يصل الشيطان. هناك، بالطابق الرابع، عدة ناجي على طاولته المتواضعة، آثاره طازجة. لم يمتنع عن الرسم، في أقسى اللحظات وأكثرها عبثية. صباح الخير يا بيروت، رسم على هذه الجملة، يوم الأول من آب، حنظلة يرمي الصباح على بيروت المكسورة الذراع. صنع ناجي من الموت حياة. لن يدعه جوزيف للظروف، توجب حمايته الصمت، لن يشكو أحد من ذلك سوى الأصدقاء. لا تصور الأفكار العابرة، بالأحداث الكبرى. بدت العمليات الفنية والتقنية، صوراً عابرة لأفكار عابرة وسط توتر عظيم، خليق بإعلانه. شيء من لغة الزمن البالي، مع زمر القتل والحقد.
حين طلعت الطائرة الإسرائيلية، على علو منخفض، فوق البناية، حيث أقطن، أدركت أن بشير، الرئيس المنتخب حديثاً، مات. حملت كيساً بغرضين ومضيت مشياً إلى الصحيفة، حتى استقوي على الأوضاع بحضور الجماعة. الآن، أتذكر أهلي. يقطن الأهل على كتف المخيم، إنهم هناك، عرضة لسلاح كئيب، يبني خرائب العالم على الزوال، لست شجاعاً إلى حد الحمق، غير أن شكل الضياع بتلك الليلة بلغ الكمال. لم أرد سوى أن أبوح بحبي للأهل بلحظات الغروب، عند آخر الليل. رحت أمشي طرداً وعكساً، بالمتاهة المحلية، كحلزون يتهجى طريقه، لم أبلِّغ أحداً، تركتهم كما تركوا ناجي بالبيت المقفل عليه. مؤلف معاصر، حركة معاصرة لموت معاصر. رحت أنبثق، في هذا المكان وفي ذاك المكان. بدت المجموعات القليلة العابرة بسرعة، باتجاه كورنيش المزرعة، كأنها قضت عمرها وانتهت. لن تسأل ولن يجيبوا. ذلك أن الكل بنهاية لا تتوقف عن الانتهاء، هناك من يشير عليك بالعودة، وهناك جماعة تتكرر في جماعة أخرى، الأفضل هو الأسوأ الآن. لم يعد بتفكيري، سوى أن أجد الأهل بالبيت، مغتبطين بالنجاة، عند مفرق المدينة الرياضية، انتهى عهدي المتفائل بنجاة الآخرين، حين شاهدت أحذية وصنادل بلا أصحاب، على آثار آليات ميكانيكة، عسكرية، لا تزال روائح وقودها بالجو الغامض. طريق مسدود لنهاية القرن العشرين. هذا ما تراءى لي. لا شيء إلا بقايا الفوضى. لا شيء إلا روائح الدم والأبدان المذعورة. ثمة حضور يتعذر رفضه. أشخاص، بالطريق، بالهواء المنسوف بالرعب. يدور شريط برأسي، محشود بصور من أبحث عنهم، تنافسهم لحظات حميمة قضيتها معهم. جمال الليل كلاسيكي، تحيطه قذارة تاريخية. إثارة غريبة، أمام الباب المفتوح. لا آثار عنف، لا هجوم، لأن لا مقاومة يائسة أو ساذجة. عندها، بكيت، نزلت الدموع فوق ارتباكي، بدا أن التحرك الجماعي، قاد الأهل من المنطقة إلى منطقة أخرى. إذذاك ركزت نظراتي بكل وقار إلى المرحلة المقبلة. الأهل بخير. الطريق إلى الصحيفة، بطول الطريق إلى المخيم، حيث مارسنا أشكالاً من النضالات الطوعية هناك. باللحظة، تجلى منطق لا يرحم. عندها، استهليت الطريق إلى حدود المخيم، حيث الإقامات الموقتة، أسست لبناء الإقامات الطويلة، من عجز الجميع على كتابة الوثائق الجديدة، بعد الهزيمة العربية الكبرى. أطول الطرقات وأكثرها تعقيداً، طريق سلكتها من السفارة الكويتية، إلى مدخل المخيم. لا قدرة على الإمعان بالنظر بشيء، من فرط الرعب، وجروح الطرقات العميقة. كل قنبلة مضيئة، آخر القنابل المضيئة، نص الحرب على الحرب، يضاء الموت بأدوات الموت المظلمة. الآن أدرك ذلك. قليلاً، قليلاً، وجدت أن تشييد مسارات أصل المجزرة انتهى بأكبر المجازر وأعنفها بالقرن العشرين. جثث بالمئات بعيون فاغرة كأفواه سوريالية، تلمح الأم بشكل عابر، من حمايتها الابن أو الابنة المحضونة، إلى القلب المفزور بالحربة، رأس الابنة مهشم بحجر يعجز إلا حاقد غبي، عن حمله والنزول به، على رأس طرية. أشياء تتجاوز إمكانيات المعنى. تحطيم تام، لأسس النرجسية. لا هوية لأحد، توحد القتلى بالموت. وجدت على بعد خطوات، رجلاً شائباً، يبحث عن دموعه بصحراء الموت. لم نتحادث، إلا بعد زمن. وجدته، مع ليلى شهيد، بالمغرب. تذكر أنه شاهدني بالمخيم. قال، أنا جان جينيه. عرفته مذ رأيته، برعشاته الطائرة فوق الشهداء. لم استطع أن اجتث صورته المهيمنة على المشهد. كتب جنييه عن المجزرة، رسم ناجي صيحاته، كنصوص هاربة من التوراة. مات الجميع، الجميع مات، يوم السادس عشر من أيلول، الهشاشة والناس. غير أن التربة باركت ظهور أيدٍ جديدة بأسلحة جديدة.
*كاتب وناقد مسرحي
صحيفة الأخبار اللبنانية