السجاد يعلم الشرقي الحكمة

حائك السجاد التقليدي يطوي بمكوكه الزمن، ويخلف وراءه مسافات ومساحات من السجاد دون أن يبرح مكانه أو أنامل صاحبه..! يا لبهاء الوقت حين ينبسط عرائش من الألوان والصبر، والحلم بالطيران فوق الريح كما جاء في ” ألف ليلة وليلة” .. إنه ذاك الرابط الأبدي بين الأعين والأقدام.. إنها “صوفية الصوف”.
كلما لامست سجادة شرقية متقنة الصنعة، قدمي متذوق لهذا الفن الرقيق إلاّ وأجبرته صناعتها على حني رأسه تأملا واستمتاعا بزخارفها، مشتمّا فيها رائحة الصبر والتحدي. السجاد والشرقي ” يعلمان أنهما باقيان” لذلك لا يباليان بضجيج الآلات وأزيز الطائرات ونشرات الأخبار.
الغربي يسابق الزمن ولكن الشرقي يجالسه، يحاوره ويراقص عقاربه فيعيد إنتاجه لحنا ونقشا وحياكة لأنه يؤمن بالوصل لا بالوصول، ويدرك أن التآلف مع الحياة أجمل وأنفع من التصادم معها , لعله تعلم من حيرة المعري في قوله
“عللاني فان بيض الأماني فنيت والزمان ليس بفان”.
الغربي يصر أن يصدر إلينا ثقافة الوجبة السريعة ( الفاست فود ) في كل شيء، حتى في الارتخاء والتأمل والحزن والفرح، أما نحن فما زال لدينا متسع من الوقت حتى للنظر في الوقت.. ألم يقل ميخائيل نعيمة يوما على لسان الشرقي غير العابئ بالحروب:
“سقف بيتي حديد ركن بيتي حجر
فاعصفي يا رياح وانتحب يا شجر
فإذا الليل طال، والظلام انتشر
من سراجي الضئيل أستمد البصر”,
كل الذين استعجلوا لقوا حتفهم ـ هكذا سمعنا الأجداد يقولون، وذلك ليس لإيمان وتسليم بالعجز واستحالة اللحاق بالركب، وإنما حبا وتعلقا بالروح الشرقية التي تنزع نحو الهدوء والسكون والطمأنينة، فلماذا يريد بعض مدعي الحداثة أن يسلبونا طريقتنا في الاستماع إلى الأغاني الطويلة. ألم يخلد التاريخ ويعجب الغرب بملحمتي الهند وفارس القديمتين ( المهابراتا والشاه نامة)، وذلك لطولهما الممتع. أو ليست عجائب الدنيا هي تلك التي “سلطن ” عليها الإنسان وأخذ راحته في انجازها؟
إن حال المستعجل دون سبب يشبه حال العاطلين عن العمل من أبناء العرب في أوروبا من أولئك الذين يقلدون الغربيين في طريقة شرب قهوة الايسبرسو: يشربها الأوروبي واقفا وبسرعة للالتحاق بعمله، أما أبناء عمومتنا فيشربونها بنفس الإيقاع ثم يجلسون يتفرجون على بعضهم دون “شغلة أو عملة” كما يقول الشاميون.
شاهدت بأم عيني راعيا في إحدى البوادي العربية يضع على أذنيه سماعات ويتمايل طربا خلف أغنامه. دفعني فضولي لطلب الاستماع من جهازه فوجدته يستمع إلى أغنية من نوع ” الراب ّالمعروف بإيقاعه السريع والتصاقه بضواحي المدن الكبرى. ما حيرني أكثر هو استخدامه لسماعات الأذنين في هذا الفضاء الرحب والجو الساكن الوديع؟ ذكرني الأمر بالكاتب الساخر، الراحل محمد الماغوط، الذي اعتاد التجوال في شوارع دمشق وهو يضع الهايتفون على أذنيه في محاولة لعزل نفسه عن الآخرين. سألته عما يسمعه بينه وبين نفسه فأجاب ساخرا بأنه يسجل ضجيج الشارع في جهازه ليعيد سماعه عبر الجهاز.
قد يتفوق الشرقي –ان ثابر واجتهد ـ في اختصاص غربي بحت كالتزحلق على الجليد مثلا ولكن الأجدر به أن يلتفت الى ما يتقبله مزاجه وتستعد له جيناته ويلاقي أصداءه بين ناسه فليس من المعقول أن يباع الماء في حارة السقائين.
“الغرب غرب والشرق شرق” جملة بسيطة في ظاهرها قالها أحد المستشرقين عن خبث ولكنها دقيقة وعميقة من رجل خبر صحاري العرب وواحاتهم فأصابته لوثة الحكمة وسحر الشرق.
الشرق الذي قد يختصره خنجر صنعه حداد عجوز في بخارى ليصل عبر طريق الحرير إلى يد عطيل الموريسكي، ويستقر في صدر ديزدمونه بالبندقية حسب مسرحية شكسبير الشهيرة ” عطيل”.
الشرق الذي قد تقوله سجادة أعجمية فصيحة و أطول عمرا من صاحبها، في كل خيط منها عنفوان قوقازي أو عشق تبريزي أو مهارة حلبي أو رقة قيرواني.
ليس من باب الاعتباط أن يضع كل معلم ضربته( توقيعه) في ركن خفي من السجادة وهو خطأ مقصود لا يعلم سره إلّا مريده (صانعه) في لغة تواتر مدهشة وليس من باب الصدفة أن تسمو المهارة والإتقان فتطير السجادة البساط في ألف ليلة وليلة فوق الريح لتحلق بصانعها نحو التوق للمطلق والكمال مثل نداء إجلال وتكبير خالدين.