السرقات الأدبية.. تلاص أم تناص
قديما قال الجاحظ “المعاني مطروحة في الطريق” بمعنى أن المعاني ممتدة وغير محصورة بألفاظ محددة، وهي متاحة لمن يمتلك الصياغة اللفظية لها، وهنا تكمن أهمية اللغة القالب الذي يشكل المعنى ويجسده.
لكن في مسألة السرقات الأدبية إلى أي حد يا ترى يجب أن تقف عنده هذه المقولة وما هو الحد الذي يفصل بين السرقات الأدبية وبين الادعاء بالملكية اعتمادا على هذه المقولة؟
هذا الموضوع شغل نقاد الأدب في مختلف العصور كونه ظهر منذ أن ظهرت الفنون الإبداعية ونال اهتماما كبيرا وقد عالجه النقد العربي قديمه وحديثه في دراسات كثيرة من أهم أهدافها هي الوقوف على أصالة العمل الأدبي وصحة نسبته إلى أصحابه، وتقصي مقدار ماجاء فيها من أفكار إبداعية جديدة ومن أفكار متبعة ومنسوخة أو مقلدة.
كما أظهرت الدراسات النقدية جوانب الاتفاق والاختلاف بين العمل الأصيل والعمل المبتدع وهذا احتاج من الدارسين فطنة ودراية عميقة وسعة معرفة بالأدب على مر العصور حتى يتسنى للدارس الحكم جوانب الإبداع والاحتذاء في العمل الأدبي.
ولمفهوم السرقة كما جاء في المعجم الوسيط “الأخذ من كلام الغير وهو أخذ بعض المعنى أو بعض اللفظ سواء أكان أخذ اللفظ بأسره أم المعنى بأسره” تاريخ طويل وقضايا كثيرة وأمثلة مشهورة كثرت الكتابة عنها وتناولتها الدراسات بتفصيل وتقص وأحيانا بإشهار.
السرقة التي نتحدث عنها اليوم ليست مثل أي سرقة، فحدث وأن سرق كتاب وشعراء وروائيون وحتى أكاديميون أعمال غيرهم أو تأثروا بها، أو احتذوا حذوها وقلدوها، لكن أن يسرق كاتب جهد وإبداع من يرتبط به عاطفيا واجتماعيا وأخلاقيا فهذا لم يحدث في التاريخ الأدبي للسرقات إلا عند الروائي المصري يوسف السباعي.
ومن المعروف أن محمد السباعي (1881-1931) والد الكاتب يوسف السباعي (1917-1978) هو من رواد النهضة الأدبية الحديثة في مصر وكان متعمقا في الآداب العربية شعرها ونثرها ومتعمقا في الفلسفات الأوروبية الحديثة يساعدها على ذلك إتقانه اللغة الإنجليزية، ويعد من أكبر المترجمين عن اللغة الانجليزية، وله كتب كثيرة تجمع ما بين الترجمة والتأليف.
أما الأديب يوسف السباعي الذي اغتيل عن عمر ناهز الستين عاما في عملية أثناء حضوره مؤتمرا آسيويا إفريقيا، فيعد ظاهرة ثقافية في مصر وقد تقلد مناصب عسكرية وأدبية وصحفية رفيعة، وله كتب كثيرة أغلبها روايات وقصص، وحول جزء منها إلى أفلام سينمائية نالت شهرة وانتشارا واسعين.
وعد النقاد والدارسون والمهتمون بموضوع السرقات الأدبية سرقة يوسف السباعي من والده من أفظع السرقات الأدبية للقرابة الحميمة التي تربط الكاتبين، فقد تجرأ على سرقة رواية والده المخطوطة باسم “السقا مات” ولم تتح لها الطباعة قبل السرقة، وقد أطلع عليها محمد السباعي أحد أصدقائه قبل وفاته.
لكن هذا الصديق لم يسكت، فعندما نشر السباعي الابن رواية والده باسمه هاجمه وانبرى لانتقاده والنيل منه بكلام مسيء وجارح، وأكد في هجومه على فظاعة ما اقترفه الابن بحق الوالد، واعتبر المسألة تجاوزت حدود السرقة الأدبية في مفهومها المتعارف عليه، وانتقلت إلى أقصى حد في الإساءة الأخلاقية للروابط العائلية.
وفي هذا الوقت بالتحديد في سبعينيات القرن الماضي كان يوسف السباعي قد تقلد منصب وزير الثقافة وذاع صيته كثيرا، ولمع نجمه أدبيا واجتماعيا، فما كان منه ردا على فضيحة صديق والده له علنا دون مراعاة منصبه واعتباريته السياسية والأدبية إلا إبعاده كموظف حكومي في أسوان، فقد انتصر يوسف السباعي لنفسه واقتص من الصديق الثرثار.
ويذكر الروائي عوض شعبان في مدونته ضمن موضوع عن السرقات الأدبية أن من يقارن بين رواية “السقا مات” وجميع أعمال يوسف السباعي، يلاحظ الفرق الشاسع بين رواية محمد السباعي المسروقة وأعمال ابنه، من حيث العمق والمعرفة في شتى دروب الحياة واللذان عرف بهما محمد السباعي، وأشار شعبان في مقالته إلى أن يوسف السباعي امتعض من عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين حينما قال له ذات يوم: “أبوك يكتب أفضل منك”، ولابد أن عميد الأدب العربي قد وقف على واقعة استيلاء يوسف السباعي على رواية ابيه الخالدة “السقا مات”.
ومن الجدير بالذكر أن رواية “السقا مات” نشرت لأول مرة عام 1952، وتم اختيارها عام 2002 لتكون من أفضل 105 رواية اصدرها اتحاد الكتاب العرب في دمشق ضمن قائمة طويلة من أشهر الروايات العربية.
وعد النقاد هذه الرواية التي تتحدث عن الموت بإطار فلسفي من أعظم الروايات في القرن العشرين، ومن أجمل ما كتبه السباعي الابن، لكن يمكننا القول أيضا إن هذه السرقة إن صحت تفاصيلها كما نقلها صديق السباعي الأب فتعتبر من أكثر السرقات الموجعة التي تلقاها الأدب في تاريخه، فقد مست علاقة وجدانية وروحية بين الأب وابنه قبل أن تكون حادثة أدبية، وتمس أخلاقيات الكتابة الإبداعية وحقوق الملكية الفكرية.
ميدل ايست أونلاين