السم الطيب الذي شربته دون خوف!
عندما أقلعتُ عن التدخين بعد عشرين عاما من التورط فيه ، أصابني نوعٌ من الخلل في أدائي الفيزيولوجي والمهني والاجتماعي!
توقفت عن الكتابة، فكيف أفكر، وتلك الصديقة الغادرة ليست بين أصابعي؟ وكيف أكتب والسيجارة بعيدة عني؟ وكيف أعيد توازن العبارة، والدخان لا يرسم على طاولتي سحباً تعطي هيبة للمكان؟!
كذلك رحتُ أتناول الطعام بشراهة طفل سمين جائع، وصرتُ عندما أمشي في الطريق أشتري كمياتٍ من الفستق والقضامة والبزر الأبيض، ثم غيّرتُ مشترياتي إلى السكاكر، وبعدها ملأتُ كيساً صغيراً من الترمس، وكل ذلك لأسدّ الفراغ الكبير الذي حصل!!
لم يعد للقهوة ذلك الطعم الذي ينعش لحظات الصباح الأولى بعد استيقاظي، ولم يعد للشاي تلك السلاسة التي أحس بها وأنا أدخن السيجارة الأولى بعد وجبة الطعام الشهية التي أتناولها مع أهلي أو مع أصدقائي!
زاد وزني سريعاً من سبعين كيلو إلى ثمانين ، وبعد نحو سنة أصبح وزني تسعين كيلو دفعة واحدة ، ناهيك عن النزق والنرفزة وسوء التفاهم الذي صار ينشأ في علاقاتي مع الآخرين . ومع ذلك تجاوزت كل هذه المرحلة الصعبة ونفذتُ القرار الذي اتخذتُه بناء على نصيحة طبيب القلب الشهير الصديق الدكتور حسام الدين شبلي !
مضى ربع قرن على هذه الوقائع، تجاوزت الستين سنة من عمري، ورحل كثيرون من الأصدقاء والأقارب عن هذه الدنيا، واصطف أبناء جيلي في الدور ينتظرون قدرهم في الحرب والغربة وآخر طريق الحياة، أي الموت…
صار خزان تجربتي في الحياة مليئاً وقادراً على إعادة إنتاج الواقع في كتاباتي، ثم فجأة داهمني المرض الأخير الذي لم أتعرف على أسبابه بعد، وجعلني في حيرة من أمري طيلة شهر وزيادة !
وسريعا استسلمت، وأشعلت أول سيجارة !
ماذا فعلت السيجارة الأولى ، بعد ربع قرن من الانقطاع عنها ؟!
فعلت عندي فعل السحر. حملتني بيدين ناعمتين كطفل صغير أصيب بدوار البهجة. داعبتْ روحي بأصابع من نعاس، ثم جعلتني أستعيدُ الماضي، أستعيدُ شكل السيكارة في أصابعي، وشكل علبة السجائر على طاولة الكتابة في بيتي، وأنواع السكائر التي كنت أشتريها، بل قامت السيكارة الأولى باصطحابي برحلة جميلة إلى خصوصيات الحياة والعلاقات الإنسانية الجميلة والدراسة والأصدقاء والعشق والسفر وغيرها..
يا ألله ، ماذا فعلت بي السيجارة الأولى ..
أكبر فعل صنعته في حياتي اليومية أنها جعلتني أفتقد إليها . غدّارة هي السيجارة ، تغدر أعز أصدقائها الذي يحملها قرب صدره دائما، وأنا لا أحب الغدر ، فلماذا أثق بها ؟!
نعم لماذا أثق بها ؟!
أتعرفون ماذا فعلت بي؟ّ
هاقد عادت علبة السجائر إلى جيبي، وعادت سحب الدخان تحجب عني رؤية الزمن الذي مر دون أن أهتم بأي أثر يجتاح جسدي. لايمكن أن أخفي عنكم . كانت هذه العودة احتفالية من نوع خاص لشرب السم الطيب!