السوري عزمي موره للي شاعر يتجدّد بالموت
تمرُّ في هذه الأيام، الذكرى المئوية الأولى لولادة الشاعر السوري الفرنكوفوني عزمي موره للي (23 أيلول – سبتمبر 1916). وتأتي هذه المناسبة لتُعيد النظر في تجربة الشاعر المولود في دمشق، والذي كتب بالفرنسية لتُشكّل قصائده حالة خاصة في المشهد الفرنسي والفرنكوفوني. الشاعر الفرنسي مارك ألَن، كتب له في رسالة خاصة عام 1975 قائلاً: «نحنُ سعداء وفخورون بأن ننشرَ في فرنسا كتابكَ «الاقتراب»، وذلك إعراباً عن تقديرنا العميق لإبداعكَ في تخوم اللغة والصمت. وإنِّي لأعتقد أنَّ هذا الكتاب المُغرِق في الجمال سيكون لنا فرحة كبرى».
تنهضُ تجربة عزمي موره للي على مجموعة أسس معرفية تبثُّ فيها جمالها الخاص وتفرُّدها البهيّ. لكنّ الشاعر كان يرفض دوماً أن تُقرأ نصوصه في مضمار البحث عن المعنى الثابت أو النهائي، وهذا ما عبّر عنه جلياً في مقدمة كتابه «رؤى». فالبرهنةُ ليستْ من اهتمامات هذه النصوص، وهو ليسَ في وارد تقديم موضوعة عقل استدلالي، ما دامتِ الأبدية في عرفه اللانهاية المفتوحة على النسبية.
هكذا، يبني الشاعر تجربته على استكناه الغياب المُتجذِّر في تلكَ الأبدية بآلية كشفية تسعى إلى مُجاوَزة الحضور الميتافيزيقي للثنائيات التقابُلية، ذلكَ أنَّ رؤاه لا تحرص على إعادة إنتاج أو تأطير دلاليّ مركزي لمفاهيمَ تقليدية كالحياة والموت، أو الفردوس والجحيم، أو الوجود والعدم. بل تقومُ آلياته الإبداعية على حركية تصوّفية تسعى إلى تفكيك العدم مجازياً بوصفه تفكيكاً للوجود نفسه «ما دامَ الوجود والعدم قد تقاسَما الأبدية وأنجبا المُطلَق».
وبما أنّ الصراع الوجودي يتأسَّسُ لديه على الموت ليسَ بوصفه نقيضاً للحياة، إنما بوصفه جوهراً كُلّياً للحياة يمنحُ الكائنَ اكتمالَهُ عبر وعيه بفكرة الرحيل. كأنَّ عزمي موره للي يرفض رؤية الوجود بطريقة هيدغر (وجوداً للموت)، إنَّما يراه بمنظورٍ خاص يُمكِنُ وصفُه بأنَّه «وجودٌ بالموت»، وهو الذي قال مرّة مُعدِّلاً الكوجيتو الديكارتي: «أنا أموت، إذاً أنا موجود».
وعلى هذا النحو، يتحوَّلُ الكائنُ المُهدَّدُ دائماً بإمكانات التعديم لدى الشاعر إلى وجودٍ يستمدُّ كينونته من صلب القلَق بوصفه شعوراً بكُلِّية «الوجود بالموت»، ليغدو عامل الاغتراب لديه مُحفِّزاً لكشف المجهول من خلال تصعيد سؤال الوجود بما هو سؤال الحرية الواعية بانفتاح العدمية على أفق غير نهائي يتجاوز ثنائية الحقيقة – اللاحقيقة، وذلكَ اعتماداً على «الطريق» أو المنهج الذي يسلكه الشاعر بوصفه رائياً تأمُّلياً يسبر الفراغ أو الغياب أو اللاشيء على الدوام. وفي هذا السياق، يقول موره للي: «الشاعرُ مُعجزةٌ، يُحرِّكُ ذاكرةَ/ الفراغِ والظلام».
يتمسَّكُ موره للي بوجود أمر جوهري يختبره الوعي بما هو كشف حدسي حُرّ للفراغ، والذي تنهَضُ بموجباتِ اختبارهِ الخليةُ الصوفية، مُجذِّرةً العدمَ في صلب الوجود. أمر يتأسَّسُ على زمانية القلَق المُتعيِّنة أو بالأحرى غير القابلة للتعيُّن في «الهُنيهة الشعرية» بوصفها لحظة عابرة يؤدي انفتاحُها المُستمرّ على نسبية المجهول إلى تجريب مسالكها عبر ما يُذكِّرُنا بـ «المعرفة الحدسية» التي تمارِسُ فعلَها بسبر فضاءات الهنيهة بما هي نظامٌ يتعذَّرُ إدراكه، ذلكَ أنَّ الطريق يهدف إلى كشف المُتحجِّب الأبدي بوصفه كُلاً مُتباعداً انطلاقاً من تلكَ «الهُنيهة – اللحظة» التي لا تكفُّ عن الفرار عبر سيولة الزمن، مانحةً الذاتَ كينونتَها الحرّة بما هي ذات مُنغمسة في الموت. «ستظلُّ دوماً كسهمٍ مُصوَّب نحوَ الهدف الذي بلغتَهُ،/ ولكنَّهُ تجاوَزَكَ».
الحضور في هنيهة العالم الوقائعي عند موره للي لا يعني استحضار أسئلة العصر اليومية في مناحيها الاجتماعية أو السياسية أو المعيشة، ولهذا يُمكِنُ وصف تجربة الشاعر بأنها فوق تاريخية. ففي وقت انشغلَتْ البشرية في وجهٍ عام، والنخب العربية في وجهٍ خاص، بأسئلة أيديولوجية سادَتْ في القرن العشرين، سلكَ موره للي طريقاً تجريدياً التحَقَ عبره بنمط من اليوتوبيا العدمية بوصفها منبع الرؤيا الشمولية المُدهِشة بما هيَ رؤيا نسبية غير برهانية. وخصوصية هذا الطريق تعود إلى إعلائها من شأن الفردية. وهوَ الأمر الذي يرتبطُ عميقاً بسؤال الشعرية الذي لا يُمكِنُ أنْ يُستنفدَ، لا سيما أنَّ هذا السؤال طفا في المساحة الثقافية العربية، وذلكَ في ضوء احتدام الصراع المُنفتِح على مخاضاتٍ ثرية في مواضيع مختلفة، والناجم بطبيعة الحال عن ثورات الربيع العربي وتداعياتها.
لعلَّ من أهمّ أولويات هذه الحقبة العربية إعادة قراءة المُنجَز الثقافي، ومُحاوَلة فهمه فَهماً مُغايراً من ناحية أولى، والعمَل على التأسيس الديموقراطي من ناحية ثانية، لذلكَ لا يقف الأمرُ عند إعادة الاعتبار لمكانة عزمي موره للي، إنَّما يتعدَّاه إلى ضرورة تجذير فكرة الفردية والاختلاف بكُلّ أبعادها، إضافة الى فتح الباب عريضاً لمُمكنات اختبار مفهوم الهوية الثقافية العربية المفتوحة على التعددية والكونية، وهيَ المسألة التي التقطَها بدر شاكر السياب مُبكِّراً، فكتبَ لهُ في رسالة خاصّة ( 1956) قائلاً: «لا تزالُ أناشــيدُكَ الرائعة تملأُ نفسي. إنَّ كتاباتكَ المُبدعة ستكون ظفراً للأمة العربية وللغتها. ونحنُ ننتظرُ اليوم الذي سنقرأها فيه انتظار المشوق. والحقّ أنَّكَ قد جعلتني أثقُ بنفسي، وبأنَّني سأكونُ شاعراً ذاتَ يوم».
صحيفة الحياة اللندنية