السيرة الذاتية لنجيب محفوظ … المضمر والصريح
ربما وجد نجيب محفوظ، وهو يقف على الشاطئ الآخر من عمره أن مسيرته الحياتية موزّعة بنسب متفاوتة على أعماله، مواقف وحالات ورؤى ومشاهد وشواهد وأشواق وظنون وإقدام وإحجام، فآثر ألا يعيد نفسه فى سيرة سافرة، أعتقد أنها لن تضيف إليه كثيراً، لاسيما أن من طالبوه بتسجيل أيامه لم يقصدوا أن يركز على تاريخه الفنى والإبداعي، بل أسراره الشخصية وحياته الخاصة، التي هي ملكٌ له، لا يجوز لأحد أن يسترق لها السمع، أو يمد إليها بصره، لاسيما أن الرجل كان كتوماً حيال ما يجري في بيته، حتى أن المصريين لم يعرفوا اسمي ابنتيه واسم زوجته إلا بعد أن حصل على جائزة نوبل عام 1988، وهو في السابعة والسبعين.
أملى صاحب «أولاد حارتنا» طرفاً من أحواله ومساره على جمال الغيطاني عبر حوار مطوّل صدر في كتاب «نجيب محفوظ يتذكر» وسجّل على شرائط كاسيت لرجاء النقاش سيرته وبعض أفكاره، فصدرت في كتاب ضخم، وكتب محمد سلماوي سيرة ثالثة، وإبراهيم عبدالعزيز، سيرة رابعة استقاها من أعمال محفوظ وكتاباته وتصريحاته. لكن محفوظ نفسه لم يكتب سوى صدى سيرته، فكان كتابه «أصداء السيرة الذاتية» وهو نص صوفي شاعري ملغز مختزل ومفتوح على تأويلات عدة، لا يمكن بأي حال من الأحوال أنه يوصف بسيرة، إنما خلاصات مقطرة صافية لتجربة حياتية طويلة.
لم يشأ محفوظ أن يكتب سيرة ذاتية مباشرة، وظل هذا الأمر ثقيلاً على نفسه، برغم أنه يسيرٌ على قلمه الفياض، وكان يسوق دوماً مبررات قوية جعلته يحجم عن هذا العمل، الذى أتاه أدباء ومفكرون وعلماء كثر، تبدأ بإيثار السلامة من دون رضوخ أو تنازل، وهي سمة معروفة عنه، وصفة ملتصقة بذاته، وتنتهي بغضه الطرف عن قيام آخرين بكتابة جوانب من سيرته ومسيرته الشخصية، متناثرة أو مجتمعة، استقوها من نصوص أعماله، أو من تصريحاته وأحاديثه الصحافية، أو خلال جلساته المنتظمة، في الندوات الأدبية التي كان ينظمها ويقودها على بعض مقاهي القاهرة، أو لقاءاته مع أصدقائه ومريديه، التي صاحبته حتى مشارف الموت.
وكان محفوظ يرى أن سيرته الذاتية موزّعة بين سطور قصصه ورواياته، لا تغفلها عين بصيرة ولا عقل متوقد، فأحياناً يكون محفوظ شخصاً بعينه من شخصيات الرواية، مثل ما هي الحال بالنسبة لـ «كمال عبدالجواد» فى الثلاثية، والتى اعترف كاتبها نفسه بأنه أقرب شخصية إليه.
وأحياناً تكون سيرة محفوظ كامنة في فعل ورأي السارد أو الرواي، وهي مسألة ظاهرة بقوة في رواية «المرايا» التي تطوي بين دفتيها شخصيات رآها وخالطها طوال عمره المديد، وكذلك في رواية «قشتمر»، التي يعرض شخصياتها «كل أحد باسمه الفني» إلا الراوي، الذى توارى بين السطور، وقدّم نفسه باعتباره واحداً من مجموعة أصدقاء يقول عنهم: «تضخمت جماعتهم بمن انضم إليهم من الجيران، جاوزوا العشرين عداً، ولكن ذهب من ذهب بالانتقال من الحي أو بالموت، وبقى خمسة لا يفترقون ولا تهن أواصرهم، هؤلاء أربعة والراوي. التحموا بتجانس روحي صمد للأحداث والزمن، حتى التفاوت الطبقي لم ينل منه، إنها الصداقة في كمالها وأبديتها. الخمسة واحد والواحد خمسة، منذ الطفولة الخضراء وحتى الشيخوخة المتهاوية، حتى الموت. اثنان منهم من العباسية الشرقية، واثنان من الغربية، الراوي أيضاً من الغربية، ولكنه خارج الموضوع». وهذا الحرص على إخفاء الراوي بلغ مداه في رواية «عصر الحب»، التي استهلّها محفوظ بقوله «يقول الراوي: ولكن من الراوي؟ ألا يحسن أن نقدمه بكلمة؟ إنه ليس شخصاً معيناً يمكن أن يشار إليه إشارة تاريخية، فلا هو رجل ولا امرأة، ولا هوية ولا اسم له، لعله خلاصة أصوات مهموسة أو مرتفعة، تحركها رغبة جامحة في تخليد بعض الذكريات… وإني إذ أسجله كما تناهى إليّ، إذ أسجله باسم الراوي، وبنص كلماته فإنما أصدع بما يأمر به الولاء، وأنفذ ما يقضي به الحب، مذعناً في الوقت نفسه لقوة لا تجوز المجازفة بتجاهلها».
وأعتقد أنه لم يكن من المناسب لأديب يلفه كل هذا الغموض حول رواته وسارديه وحياته الخاصة أن يكتب سيرته الذاتية. وعند البعض فإن عدم إقدام محفوظ على كتابة سيرته كان قراراً صائباً، حقّق له ما كان يحرص عليه دوماً من إقامة ستار حديدي بين حياته الخاصة، وبين كونه شخصية عامة، بلغت شهرتها الآفاق. وعند آخرين فإن محفوظ كان يجب أن يحكي عن تجربته في الكتابة، أو يقول لنا ما وراء نصه، لتتعلم منها أجيال لاحقة. لكن من الشحيح إن لم يكن معدوماً أن تجد تصريحاً لمحفوظ يحكي فيه عن طقوسه في الكتابة، وهي مسألة ينقب عنها الآن محمد شعير كما ظهر في كتابه الذي صدر أخيراً تحت عنوان «أولاد حارتنا… سيرة الرواية المحرمة» (العين)، وفي تحقيقات استقصائية عكف فيها على تحليل مسودات عثر عليها لبعض روايات محفوظ.
ربما حافظ هذا القرار على مكانة محفوظ ورصيده عند كثير من الناس، إذ إن الكثير من الســير الذاتية خصمت من أصحابها، وألقت بظلال ثقيلة على أفكارهم، في مجتمعات لا تفرق بين الكـــاتب والكتاب، ولا تميز بين النص ومـــؤلفه، فتــــخلط بين هذا وذاك، فإن كان بالسيرة ما يــشين، سحبت هذا على أعماله، وراحت تحصي التناقض بين ما جرى له في حياته الشخصية وبين ما خطّه قلمه من مواقف وأحـــداث، ودأبت على التنقيب عن مواطن النميمة، ونسجت شائعات لا تنتهي حول جملة وردت في السيرة الشخصية أو اسم ما، أو تصرف معين.
نأى محفوظ بنفسه من التصنيفين اللذين يوزع عليهما كتاب السير، وأولهما هو كتابة ما وعته الذاكرة من الحقيقة كما هو، من دون رتوش، وثانيهما تجميل ما جرى، وإظهار صاحب السيرة في أبهى وأنصع صورة ممكنة.
وأصحاب الصنف الأول إما ينشغل الناس بنقائصهم، فلا يحترمون إنسانيتهم، ولا يغفرون لهم ذنباً، أو يسترون لهم عيباً، بل ينظرون إلى صدقهم باعتباره نوعاً من الرياء، الذي يروم صاحبه أن يقول الناس عنه إنه صادق ولو فضح نفسه، أو هتكَ أسرار آخرين.
أما أصحاب الصنف الثانى فهم عند غالبية الناس كذابون وانتقائيون ومحرفون، ينتصرون لأنفسهم على حساب الحق والحقيقة، فيخفون كل قبيح، ويبرزون كل جميل فى حياتهم، فيظهر الزيف من أول سطر في سيرتهم، وبالتالي تفقد معناها ومغزاها، وقد يؤول الناس كلامها على عكس ما قصد به صاحبها.
وفي الحالتين يخسر الأدباء والمفكرون كثيراً من دورهم في الحياة، من زاوية أن الناس ينظرون إليهم باعتبارهم رموزاً يشار إليها، وقدوة يحتذى بها. ونتيجة عدم قدرة العوام على التفرقة بين «الخاص» و «العام» في مسيرة منتجي المعرفة والفن، فإن هذه القدوة ُتجرح، وقد تصاب في مقتل، بينما منطق الأشياء يقتضي أن يشكل هؤلاء قادة للرأي في مجتمعاتهم، الأمر الذي يفيدها في السراء والضراء.
لكن هناك صنفاً ثالثاً، ربما لم يلتفت إليه محفوظ، وهم أولئك الذين جرت حياتهم على استقامة وحفلت بالكفاح المرير الشريف، وأولى بهؤلاء أن يقصوا على الناس سيرهم في صدق، وبوسعهم أن يوظفوا طرائق السرد المعتادة، فتكون السيرة عملا مختلفا يضاف إلى ما أنتجوه من قصص وروايات أو مسرحيات أو أشعار أو كتابات إنسانية وعملية أو تجارب عملية وحياتية. وكان محفوظ واحداً من هؤلاء، ولذا فإن سيرة ذاتية يكتبها بنفسه، غير مكتف بالأصداء ولا الإملاء ولا الحوار ولا التسجيل، كانت ستضاف إلى رصيده السردي الكبير.
صحيفة الحياة اللندنية