أحوال الدنيا

السينما الإيرانية في “كان”: ضيق المنع، وتسلط الموافقة!!

د. فؤاد شربجي

لفتت السينما الإيرانية الأنظار في مهرجان كان الذي أنتهى قبل أيام، وتركز جوهر الاهتمام على مسألة الحرية المتاحة للسينمائي لينجز فيلمه ويطرح رأيه. وفاز بالسعفة الذهبية (أكبر جوائز المهرجان) الفيلم الإيراني “مجرد حادثة” للمخرج جعفر بناهي(62 سنة). وإضافة لفكرة الفيلم القوية، تم التركيز على مسألة قيام المخرج بتصوير فيلمه كله سراً ودون موافقة السلطات. أما الفيلم الإيراني الثاني في “كان” فهو فيلم “امرأة وطفل” للمخرج سعيد روستأبي. وأثيرت الضجة حوله كونه أنجز وصور بترخيص وموافقة من السلطات الإيرانية. وجرى لوم المخرج روستابي على تقديم بعض التنازلات للحصول على ترخيص التصوير. وهكذا فإننا أمام سينما إيرانية بوجهين للتعامل مع السلطات المقيدة والمتحكمة. وجه يعمل ويصور سراً وغصباً عن السلطة. ووجه يعمل وينجز بالتكيف مع السلطة كي يمرر عمله. إنها السلطة ورقابتها في كل تفاصيل الإبداع والتعبير الفني. وهي المسألة الحاكمة في معظم بلاد السلطات المتحكمة والمستحكمة في كل تفاصيل الحياة والإبداع. وفي هذه المسألة معان كثيرة!!
‏جعفر بناهي صور وأنجز فيلمه سراً رغم رفع السلطات الإيرانية الحظر والمنع عنه، ورغم السماح له بالعمل في إيران. أي أنه اختار التصوير سراً وبعيداً عن عيون السلطة التي أعلنت أنها ستسمح له بالعمل إذا تقدم بطلب ترخيص وموافقة. وتفضيله العمل سراً يكشف معاني الترخيص السلطوي للفن. فتحت اسم (ترخيص أو موافقة) تمارس السلطة التقييد، والتدخل في المعاني، والضغط لحرف الإبداع عن مساره. جعفر فهم أن الترخيص أو الموافقة من قبل السلطات على العمل، ليس إلا فتحاً للباب والسماح لها بالضغط والتدخل وتشويه العمل. وبذلك فمن سعى للحصول على الترخيص يضطر لتنفيذ مطالب السلطة طالما قبل الترخيص منها على العمل وطالما التزم بما نصت عليه الموافقة والترخيص. لذلك فضل جعفر بناهي أن يصور سراً بدون ترخيص لأنه يعرف مدى تسلط السلطات عبر ما تعطيه من موافقة أو ترخيص للعمل.
‏اما المخرج سعيد روستأبي فقط صور فيلمه بناء غلى ترخيص وموافقة من السلطات.  واضطر لأن يجعل المرأة تضع حجاباً حتى وهي في بيتها. وتقييد ببعض التعاليم الملزمة الواردة في ترخيص السلطات له بالتصوير. وهذا ما يتيح له أن ينجز فنياً كل ما يريد على مستوى الصورة والشكل الفني والتعبير البصري، لأنه مسموح له العمل في المستشفيات والمؤسسات والشوارع. ومسموح له استخدام معدات كبيرة، وحشوداً من العاملين. وبذلك يرى سعيد أنه يخسر بعضاً من معاني الرسالة التي يريد إيصالها للجمهور بسبب ترخيص السلطة وتدخلها، ويكسب تحقيق المستوى الفني الذي يريد. والأهم أنه يستمر بالعمل والإنتاج ولا ينكفئ.
‏كلاهما, جعفر بناهي وسعيد روستابي يحملان ويقدمان فكراً نقدياً وانتقادياً للسلطة. الأول أراد أن يبقى حراً من السلطة وتسلطها فصور سراً، والثاني لم يجد طريقة للعمل إلا بالتكيف مع السلطة لتمرير أكبر قدر مما يريد فحصل على الترخيص. ومع تمجيد جمهور مهرجان كان لجعفر بناهي لتصويره فيلمه بالسر ولجرأته في طرح كل شيء. ومع انتقاد البعض لسعيد روستابي لأنه خضع لتسلط السلطة وخسر بعض معاني محتواه. مع كل ذلك وفوقه فإن كلاهما سلك مسلكه لكي يروي قصته ويتواصل بها مع جمهوره. سعيد قال (المهم عندي أن يشاهد الإيرانيون أفلامي وتصلهم أفكاري) وجعفر بناهي قال (نستمر برواية القصص مهما أهتزت الأرض تحت اقدامنا). كلاهما يتحدى السلطة وسلطتها. وكلاهما يسلك مسلكا مختلفا في تحديه لتسلط هذه السلطات. وفي النهاية، يجتمع الاثنان على ضرورة أن نستمر برواية القصص وكشف المعاني وفضح المستور. مهما سدت في وجهنا المنافذ ، ومهما استشرست السلطة في تسلطها على الإبداع والتعبير الفني.
‏السينما الإيرانية في مهرجان “كان” عبر فيلمي المخرجين جعفر بناهي وسعيد روستأبي فتحت النقاش على مدى الضرر الذي تتسبب به السلطات الحاكمة عندما تتسلط على الإبداع وحرية التعبير…. وإيران مجرد مثال!!

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى