(السُنْبُك) : قصة لونين، الأبيض والأسود !
سأحكي لكم هذه المرة عن قصة لونين من ألوان الحياة، وهما: الأبيض والأسود. فهذان اللونان أساسيان في الحياة، وجميلان في الفن التشكيلي، ويمكن ملاحظة جمالهما في التناقض الصارخ بينهما، وخاصة انعكاس معاني المفارقة اللونية على مشاكل الحياة، فمرة يكون البياض كشفا جميلا في سعادة الروح، ومرة يظهر السواد كشفا مفجعاً في مرارة الحياة والحزن، أما مزيجهما فنراه في بقايا حريقٍ ترك خلفه ناراً منطفئة وفحماً، ونبتةً لبسها الرمادُ فأعطاها لون الموتْ!
كان هناك شاب في بيروت يعمل قرب مبنى مجلة “نضال الشعب” التي كنتُ محررا فيها، وكان اسمه (السُنْبُك)، وكان هذا الشاب يعمل في لحام الكهرباء والحدادة، وأدى ذلك مع مرور الزمن إلى إصابته بعمى الألوان، فهو لا يرى غير الأسود والأبيض !
كان (السُنْبُك) مثيرا للانتباه في شكله ولقبه ومزاياه، وأول سؤال انتابني هو معنى اسمه، وسألت رئيس التحرير الكاتب محمد عادل، فقال ضاحكا: أطلقوا عليه هذا اللقب بسبب عمله لأن (السُنْبُك) يطلق على أحد أدوات كار الحدادة الذي يعمل فيه !
شغلني (السُنْبُك) ليالٍ عديدةً عندما عرفتُ بحالته، فقد أرعبني أن يجهل الإنسان لون البحر الذي كان صافيا أزرقَ في ذلك الصيف اللبناني عام 1980، أو أن يجهل لون الأشجار في منطقة الحرش وحديقة الصنايع في بيروت، وخفت من فكرة هاجمتني أن لا يكون (السُنْبُك) يعرفُ معنى لون الدم، وخاصة بعد مرور خمس سنوات على الحرب الأهلية في لبنان، التي عشتُ فصلا من فصولها!
انشغلتُ زمنا آخر في محاولة لكتابة أول رواية في حياتي عنه، فلم تُرضني، كانت ببساطة (يا أسود يا أبيض) كما يقول عادل إمام، وكانت شخصياتها تدور على الورق وكأنها تعمل في منجم للفحم أو في ورشة حدادة مقفلة!
بعد أكثر من عشر سنوات على معرفتي (بالسُنْبُك)، وكان اسمه قد تراجع في عمق ذاكرتي، اشتريت طقما أسود، وبطبيعة الحال كان يحتاج لقميص أبيض، ولربطة عنق تليق بهذين اللونين، فانتقيتها سوداء بخطوط مائلة بيضاء..
عندما وقفت أمام المرآة لأتعرفَ على أناقتي بعد ارتداء الطقم، تراءى لي (السُنْبُك) في المرآة بشحمه ولحمه، وأحسستُ أن حياتي أضحت خليطا رماديا من اللونين!
بمعنى آخر صرت أنا (السُنْبُك)!
عندما ترتدي طقما أسود وقميصا أبيض، فهذا يعني أنك ستتقمص ملامح الصورة التي يراها (السُنْبُك)، فتصبح الأشياء محسومة تماما: أسود وأبيض ومزيج رمادي ينتج عنهما، ويحصل هذا عندما ترى قادة حركات التحرر في العالم والرؤساء والوزراء وقادة الأحزاب الذين يرتدون ثيابا رسمية سوداء وبيضاء، وعندما ترى رؤساء المنظمات الشعبية، والنقابيين والمثقفين الذين يجلسون في المقهى ويبيعون أفكارهم للداخل والخارج، عندما تراهم يرتدون أطقما سوداء وقمصانا بيضاء بعد أول رشوة يتلقونها، ممن يشتري.. بل ويتراءى إليك (السُنْبُك) حتى عندما ترى عريسا يقف أمام عروسه بردائها الأبيض .. كلهم يأخذونك إلى (السُنْبُك)، فماذا لو تعرفت على امرأة ذات عينين سوداوين تسبحان في بياض ناصع!!
فجأة، وكنت قد أصبحت كهلاً، تراءت لي تلك المرأة التي تملك من جاذبية الأنوثة والرقة ماجعلني أنحني خجلا أمامها، وكانت سوداء العينين، تظهر المفارقة في عينيها بين شدة البياض وشدة السواد، وفي هذا الخليط تظهر روح الجاذبية في جمالها!
في تلك اللحظة، شعرت أن اللونين الأبيض والأسود لم يحضرا في المشهد كفاتحة لقدوم (السُنْبُك)، ومع ذلك لم يكن قد مضى زمن طويل على معرفتي بها حتى عاد..
نعم . عاد (السُنْبُك) حتى في العيون التي في طرفها حَوَرٌ!